في لحظة فارقة من تاريخ الجنوب، أطلّ الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، بخطاب أقلّ ما يمكن وصفه بأنه خطاب العقل في زمن الغضب، ونداء الضمير في زمن المكائد.
اجتمع القائد بشركاء النضال، بقيادات المجلس ووزراء الانتقالي في حكومة المناصفة، ليضع أمامهم ما يشبه المصارحة المختزلة لما يجري من معاناة، ويفتح، دون أن يصرّح، ملفات الشراكة المتعثرة والمثقلة بالتناقضات والقيود.
شراكة مقيدة.. لا تضمن الجنوب ولا تحمي مشروعه
أكثر ما لفت في خطاب الزُبيدي هو ما لم يُقال، لا ما قيل، فبين السطور، بدا واضحاً أن الرجل يُدرك حجم التحدي، وأن الشراكة السياسية الحالية، التي يلتزم بها المجلس في إطار الحكومة ومجلس القيادة، تحولت من فرصة إلى عبء، ومن مساحة تأثير إلى شبكة من القيود تكبّل القرار وتحاصر الفعل.
الزُبيدي، بخطابه المتزن، لم يندفع نحو التصعيد، لكنه لوّح، بدهاء السياسي الذي يعرف متى يتحدث ومتى يصمت، بأن الجنوب يُدار من شركاء لا يشاطرونه الرؤية ولا يتبنون قضيته، بل يسعون – بشكل ممنهج – إلى إظهاره كفاشل في أعين جمهوره، عبر تفريغ السلطات المحلية من أدواتها، وتعطيل الخدمات، وتجويع الناس.
مسؤولية لا يمكن التملص منها.. والجنوب أمانة في الأعناق
أقرّ الرئيس القائد بحق الناس في التعبير، واعتبر الاحتجاجات التي شهدتها عدن مؤخراً تعبيراً مشروعاً عن معاناة حقيقية، لكنه، في المقابل، لم يتنصل من المسؤولية، بل أعاد التذكير بأن المجلس الانتقالي، بقادته ووزرائه ومحافظيه، جزء من السلطة، وعليه واجب مزدوج: الدفاع عن تطلعات الشارع، والبحث الجاد عن حلول واقعية، رغم الحصار السياسي والخدمي المفروض عليه.
خطاب بلا قفازات.. لكن دون اشتباك صريح
رغم وضوح المعطيات، لم يتجه الزُبيدي نحو تسمية الأشياء بأسمائها، ولا نحو اتهام الشركاء الشماليين صراحة، ربما التزاماً بالتوازن، أو اتقاءً لانهيار متوقع لمجلس القيادة.. لكنه، ومن موقعه، بعث برسائل عديدة، أوصلت المعنى لمن يعنيه الأمر: نحن نعرف ما يدور خلف الكواليس، ونعرف من يعرقل ومن يتآمر، لكننا نختار التريث حفاظاً على ما تبقى.
بعض الأصوات في الشارع الجنوبي ترى في هذا الموقف نوعاً من "الدبلوماسية الناعمة" التي تُفقد المجلس شيئاً من بريقه الثوري، لكن الحقيقة أن الزُبيدي لا يزال يتقدم الصفوف بخطاب مسؤول يوازن بين الانفجار والاحتواء، وبين الواقعية والطموح.
إصلاح داخلي يبدأ من الرأس
في خطوة لافتة، تحدث الزُبيدي عن ضرورة "ضخ دماء جديدة" في مؤسسات المجلس، وهي إشارة إلى وجود ترهل وتنظيم بحاجة إلى علاج، لكنه أيضاً اعتراف صريح بأن المجلس، بكل ثقله، بحاجة إلى تطوير أدواته، وتفعيل أذرعه، وربما إعادة ترتيب بيته الداخلي قبل خوض أي مواجهة قادمة.. لكن الإصلاح لن يكون كافياً ما لم يُرافقه بناء مؤسسي حقيقي، وأدوات رقابة فعالة، وجرأة في المحاسبة.. فالجنوب اليوم لا يحتمل التجميل، بل يحتاج إلى التغيير.
التحالف.. شريك أم متفرج؟
جدّد الزُبيدي تأكيد شراكة المجلس مع التحالف العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، غير أن هذا التأكيد، في سياق تدهور الأوضاع، بدا أكثر توجهاً نحو مخاطبة الخارج، في وقت تتزايد فيه الأسئلة جنوباً: هل ما زال التحالف ضامناً لمصالح الجنوب، أم أنه أصبح متواطئاً بالصمت مع من يعبث بكرامة المواطن ويجوعه؟
التحالف الذي دعم مشروع الجنوب طيلة سنوات، مطالب اليوم بإعادة تقييم مواقفه من شركائه في الشرعية، ومساءلة الأطراف التي تعطل كل محاولة إصلاحية قادمة من عدن.
الرسالة الأخيرة: الجنوب لن يُهزم من الداخل
خطاب الزُبيدي، في مجمله، كان محاولة للتوازن بين الاعتراف بالأزمة وبين الحفاظ على تماسك الصف.. لم يكن خطاب انتصار ولا إعلان مواجهة، لكنه أيضاً لم يكن خطاب استسلام. بل كان أقرب إلى رسالة مبطنة: الجنوب لن يُهزم من الداخل، ولن تنكسر إرادته أمام التآمر السياسي، لكنه بحاجة إلى أن يُصارح نفسه أولاً، ثم جماهيره، قبل أن يواجه خصومه.
إذا كان للمجلس الانتقالي أن ينجو من فخ الشراكة المشبوهة، فعليه أن يتحول من خطاب التبرير إلى فعل التغيير، ومن الدفاع إلى المبادرة، ومن امتصاص الغضب إلى قيادة المواجهة، فالسياسة، كما يعرفها الزُبيدي جيدًا، ليست فقط فن التفاوض، بل أيضًا شجاعة القرار.