في الوقت الذي تستعر فيه الحروب على امتداد الشرق الأوسط، وتحتدم الأزمات الاقتصادية في الداخل اليمني، تعود قضية إصدار عملة نقدية جديدة إلى واجهة الجدل الاقتصادي في البلاد، وسط تحذيرات من أن خطوة كهذه، إن اتُّخذت، ستكون بمثابة إعلان إفلاس رسمي وانهيار غير مسبوق للعملة المحلية.
دوامة الانهيار: الريال يتراجع بلا قاع
شهدت الأسواق في المناطق الخاضعة للحكومة اليمنية تراجعًا سريعًا ومقلقًا في قيمة الريال اليمني، تجاوز خلال أيام قليلة حاجز 2700 ريال مقابل الدولار، بعد أن كان مستقراً نسبياً عند مستوى 2580، ما أشعل موجة جديدة من ارتفاع الأسعار وزاد من حدة الأزمة المعيشية التي يعاني منها الملايين من المواطنين.
ويحذر محللون اقتصاديون من أن "الريال" يعيش واحدة من أسوأ مراحله في تاريخه، مدفوعًا بعوامل مركّبة، أبرزها توقف الصادرات النفطية، وغياب التمويل الخارجي، وتراجع الثقة في السياسات المالية للدولة، ناهيك عن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة على وقع الحرب الإسرائيلية – الإيرانية.
الطباعة النقدية... خيار أم انتحار اقتصادي؟
رغم نفي البنك المركزي في عدن وجود أي توجه لطباعة أوراق نقدية جديدة، إلا أن مصادر اقتصادية مطلعة تحدثت عن نقاشات داخلية تدور في أروقة الجهات المالية بشأن جدوى إعادة ضخ كميات من الطبعة النقدية ذات الحجم الكبير إلى الأسواق، في ظل استنفاد البدائل.
ويؤكد رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، أن أي خطوة في اتجاه الطباعة بدون غطاء نقدي أجنبي ستكون لها تداعيات كارثية. ويقول: "إنها ليست مجرد مغامرة، بل انتحار مالي سيضاعف من التضخم، ويدمر ما تبقى من قيمة الريال".
أسباب تتجاوز الحرب الإقليمية
وبينما يربط البعض التدهور الحاصل في سعر الصرف بتداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران، يرى محللون مصرفيون أن الأسباب أعمق من ذلك. إذ يلفت الخبير المصرفي علي التويتي إلى أن غياب الحكومة عن الداخل، وفساد الأجهزة التنفيذية، وفتور الدعم السعودي، كلها عوامل تسهم بفعالية في هذا التدهور، مضيفاً: "حتى لو انتهت الحرب، فإن المشكلات البنيوية في إدارة الدولة ستظل تقود العملة إلى الهاوية".
المشهد المالي... بلا مخرج
في تقرير خاص أعده فريق اقتصادي رئاسي، تم استعراض واقع مؤشرات الاقتصاد الكلي، والذي يظهر بوضوح حجم التحديات: ارتفاع جنوني في تكاليف الشحن البحري، جفاف شبه كامل في الموارد المالية للدولة، وانكماش متواصل في عمليات التصدير، لا سيما النفط، الذي يعد المصدر الأول للدخل القومي.
وبحسب مصادر مطلعة في البنك المركزي، تم وضع خطة شاملة للإصلاح المالي والنقدي، إلا أن هذه الخطط لا تزال قيد الدراسة لدى الجهات العليا، وسط غياب واضح لأي إجراءات عاجلة على الأرض.
البحث عن أمل ضائع
في ظل انسداد الأفق، يعوّل كثيرون على دعم خارجي يعيد التوازن المالي للحكومة، خصوصًا من الشركاء الإقليميين، إلا أن المواقف السياسية المعقدة، والتقارب الإقليمي الجديد بين بعض الأطراف الفاعلة في المشهد اليمني، يجعل من هذا الدعم أمرًا بعيد المنال.
يقول الباحث الاقتصادي علي البشيري إن الانهيار الحالي ليس نتيجة مفاجئة، بل حصيلة مسار طويل من الفشل في إدارة الملف المالي. ويضيف: "اليوم، لم تعد هناك أي أوراق في يد الحكومة. لا دعم، لا صادرات، ولا قدرة على فرض رقابة على السوق السوداء".
الناس تدفع الثمن
في عدن، كما في سائر المدن الواقعة تحت إدارة الحكومة، يتحول انهيار العملة يومياً إلى كارثة إنسانية. أجور الموظفين تتآكل، والقوة الشرائية تنهار، والفقراء يزدادون فقرًا. الأسعار تتغير في السوق أسرع من تغير الأخبار السياسية، والسلطات لا تملك سوى التفرج.
هل تملك الدولة خيارًا؟
ما بين التردد في الطباعة النقدية، والخوف من مجاعة اقتصادية، تقف الحكومة اليمنية أمام مفترق طرق خطير. فإما أن تتخذ قرارات إصلاح جذرية، تشمل إجراءات شجاعة لمحاربة الفساد واستعادة الثقة، أو تستمر في التآكل البطيء حتى لحظة الانهيار الكامل.
في بلد تمزقه الحرب، وتنهكه الأزمات، يبدو أن الاقتصاد أصبح ساحة معركة أخرى، لا تقل دموية عن الجبهات العسكرية... لكن الخاسر الأكبر فيها يبقى المواطن البسيط.