بينما يتجه العالم نحو نظام دولي جديد، لا يزال يتخبط في مخاض حرب أوكرانيا، وتداعيات كارثية لحرب غزة، والصراع المفتوح بين إسرائيل ومحور المقاومة، يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد قرأ الخريطة بشكل مختلف، واختار أن تكون بوصلته من جديد متجهة نحو الرياض.
لكن لماذا السعودية أولًا؟ ولماذا الآن؟
الإجابة ليست في البروتوكول، بل في التحول. التحول في بنية القوة الإقليمية، في موقع السعودية السياسي، وفي تصور الولايات المتحدة نفسها لدورها في المنطقة.
الرسائل خلف المشهد: السعودية ليست محطة، بل مركز القرار
حين اختار ترامب الرياض أول محطة في ولايته الأولى، قيل إنها "مجاملة رمزية". أما في زيارته الثانية، فقد تحولت المجاملة إلى مراهنة كاملة على دور القيادة السعودية. فالمملكة لم تعد تُعامل كـ"تابع إقليمي"، بل كشريك مؤثر يمتلك مفاتيح ملفات معقدة: إيران، غزة، الاقتصاد الإقليمي، والطاقة العالمية.
المفارقة أن ترامب، الذي طالما تغنّى بقوة إسرائيل، بدا هذه المرة أكثر واقعية. فبينما تُغرق تل أبيب نفسها في وحول غزة، وتفقد دعمًا دوليًا متزايدًا، برزت الرياض كلاعب متماسك، لا يغرق في مستنقعات، بل يفاوض من موقع قوة و"يُملي شروطه" كما وصف جميل الذيابي.
نقطة تحول في العلاقات: من التبعية إلى التكافؤ
تبدو زيارة ترامب إعلانًا صريحًا أن العلاقة مع السعودية دخلت طورًا جديدًا: شراكة على قدم المساواة. لم يعد هناك مجال للإملاءات، ولا مكان لتحالفات شكلية. فالسعودية اليوم هي التي تضع حدود اللعبة، من ملفات التطبيع إلى الصراع في اليمن، ومن أسواق الطاقة إلى استثمارات التكنولوجيا.
التحول السعودي الداخلي – اقتصاديًا واجتماعيًا – أعاد تشكيل صورة المملكة في واشنطن. لم تعد مجرد "مصدّر نفط"، بل دولة ذات رؤية طموحة، قادرة على جذب استثمارات ضخمة، وتقديم نموذج للحكم الرشيق والانفتاح الموزون في محيط ملتهب.
ترامب والعودة إلى "السلام الاقتصادي".. ولكن بشروط سعودية
يحاول ترامب إعادة فرض مقاربته القديمة: السلام عبر الاقتصاد. لكن هذه المرة، لم تعد السعودية مستعدة لمنح التنازلات مجانًا. فالتطبيع مع إسرائيل، مثلاً، أصبح مشروطًا بوضوح باعتراف بحدود 1967، ووقف العدوان على الفلسطينيين، وقيام دولة مستقلة.
ببساطة: السعودية لن تبيع أوراقها بثمن سياسي بخس.
أميركا تعترف: لسنا وحدنا بعد اليوم
الدبلوماسي الأميركي ألبرتو فرنانديز لخص الأمر بذكاء: واشنطن تدرك اليوم أنها لم تعد القوة الوحيدة في الساحة، وأن عليها "الاعتماد على شركاء أقوياء"، في طليعتهم الرياض.
بل إن هذا الاعتراف جاء نتيجة إخفاقات أميركية متكررة في المنطقة، أبرزها ما حصل في اليمن مؤخرًا، حيث فشلت الحملة الجوية بقيادة ترامب في إخضاع الحوثيين، واضطر إلى عقد اتفاق معهم لحماية سفنه فقط، في مؤشر على تآكل النفوذ الأميركي المباشر.
الشرق الأوسط يعيد تشكيل ذاته.. من الرياض
في هذه اللحظة المفصلية، لم تعد واشنطن هي من تُحدد قواعد اللعبة وحدها. هناك لاعبون جدد، ومراكز ثقل جديدة. والرياض تقف في قلب هذا التحول.
زيارة ترامب لم تكن مجرد رحلة دبلوماسية، بل إعلان أن مركز القرار الإقليمي لم يعد في تل أبيب أو بغداد أو القاهرة.. بل في الرياض.
وهذا التحول لا يُغني فقط السعودية، بل يُعيد التوازن إلى مشهد عالمي بدأ يفقد اتزانه تحت وطأة الحروب والتقلبات.
ترامب، بكل براغماتيته، يعرف من يستحق الرهان. وهذه المرة، الرهان على السعودية ليس مقامرة، بل حسابات مصالح واضحة: من أمن الطاقة، إلى الردع الإقليمي، إلى الاقتصاد الجديد.. المملكة تقف اليوم على عتبة قيادة الشرق الأوسط، لا التماهي مع صراعاته.
والسؤال الأهم الآن: هل تستثمر السعودية هذه اللحظة لتفرض خريطة جديدة للمنطقة؟ أم أن الفوضى الدولية ستجر الجميع مجددًا إلى حافة الهاوية؟