يشكّل البيان الصادر عن وزارة الخارجية السعودية بشأن التطورات في وادي حضرموت ومحافظة المهرة محطة سياسية لافتة، ليس فقط لكونه أول إعلان رسمي شامل للموقف من التحولات الميدانية شرق البلاد، بل لأنه يرسّخ عمليًا معادلة جديدة لما بعد الثالث من ديسمبر، تاريخ خروج قوات المنطقة العسكرية الأولى وبروز ترتيبات عسكرية وأمنية مختلفة على الأرض.
أبعاد التوقيت ودلالاته
صدور الموقف بعد أسابيع من الصمت الرسمي لم يكن فراغًا سياسيًا، بل عكس – وفق قراءة متطابقة لدوائر المراقبة – إدارة هادئة للمشهد على الأرض، واختبارًا لحدود التوازنات المحلية والإقليمية قبل الانتقال إلى مرحلة التصريح العلني بالموقف.
السعودية، كما يظهر، فضّلت الانتقال من مرحلة مراقبة الوقائع إلى مرحلة تنظيمها، بحيث تتم معالجة ما جرى من خلال قنوات الحوار وترتيبات انتقالية لا تصطدم مع الوقائع الجديدة ولا تعيد إنتاج المعادلات السابقة.
ما الذي أرادت الرياض قوله عمليًا؟
بيان الخارجية السعودية حمل جملة من الرسائل الواضحة:
-
القبول الضمني بنتائج التغييرات الميدانية شرقًا
-
التركيز على تنظيم الوجود العسكري وليس إلغائه
-
الدفع باتجاه ترتيبات تقودها قوات �درع الوطن� ضمن إشراف التحالف
-
التمسك بالحوار كأداة لمعالجة التداعيات وليس أدوات الضغط العسكري المباشر
هذه الرسائل تعكس مقاربة مختلفة عن مواقف معلنة في سنوات سابقة، حيث لم يُطرح خيار التصعيد، بل طُرحت إدارة التباينات بالحوار وإعادة توزيع المهام الأمنية بطريقة منظمة.
ما بعد 3 ديسمبر.. تثبيت واقع جديد
تجنّب البيان المطالبة بعودة قوات كانت متمركزة سابقًا في وادي حضرموت، وهو عنصر بالغ الدلالة؛ إذ يشير إلى أن النقاش لم يعد حول مشروعية التغيير الذي وقع، وإنما حول كيفية تنظيم المشهد الذي نتج عنه.
وبذلك يصبح جوهر الموقف السعودي هو: الإقرار بتحول حدث، مع السعي لإعادة هيكلة ترتيبات ما بعده بما يضمن ضبط الأمن ومحاربة التهريب والتنظيمات المتطرفة.
البعد الإقليمي والدولي
تعقيدات الجغرافيا شرق اليمن، وتقاطعاتها مع ملفات مكافحة الإرهاب وتأمين خطوط الملاحة والحدود، تجعل أي تغيير عسكري هناك محل اهتمام إقليمي ودولي.
وفق قراءة “العين الثالثة”، فإن التحولات التي شهدها وادي حضرموت والمهرة جاءت في سياق أوسع يهدف إلى:
وهذا يفسر الهدوء الذي أحاط بالتحولات الأخيرة مقارنة بمشاهد صدامية في مراحل سابقة.
الحوار.. عنوان المرحلة المقبلة
اللافت أن البيان ركّز بوضوح على طاولة الحوار الشامل، داخليًا بين المكونات السياسية، ووطنيًا ضمن مسار الحل السياسي العام.
وتكتسب هذه الدعوة أهمية إضافية مع التأكيد على أن القضية الجنوبية قضية ذات جذور تاريخية واجتماعية تحتاج إلى معالجة سياسية عادلة، وهو توصيف يعكس اقتراب الخطاب الإقليمي من طبيعة الملف وليس من شعارات عامة سابقة.
المسافة المتوازنة بين المكونات
أكدت السعودية دعمها لمجلس القيادة الرئاسي والحكومة، لكنها في الوقت نفسه حافظت على مسافة سياسية متوازنة مع مختلف القوى المكوّنة له، بما فيها المجلس الانتقالي الجنوبي.
هذا التوازن يهدف إلى إبقاء القنوات مفتوحة مع الجميع، وإدارة اختلافاتهم داخل إطار تفاهمات سياسية لا تسمح بانزلاق المشهد إلى مواجهات داخلية جديدة.
قراءة المشهد؟
من منظور تحليلات العين الثالثة، فإن الموقف السعودي يعبر عن انتقال واضح:
من: إدارة ملفات متفرقة بنبرة عسكرية
إلى: معالجة سياسية مركّبة تقوم على ترتيبات أمنية منظمة وحوار شامل
كما أن إبراز عدالة القضية الجنوبية في البيان دون الإشارة الصريحة إلى شعارات الوحدة التقليدية، يعكس تحوّلًا نوعيًا في صياغة الخطاب، ويترك الباب مفتوحًا أمام تسويات سياسية متعددة الأشكال، وفق ما يتم التوافق عليه عبر الحوار اليمني – اليمني تحت الرعاية الإقليمية والدولية.
المشهد شرق اليمن بعد 3 ديسمبر لم يعد كما كان قبله.
والبيان السعودي لم يكن مجرد تعليق رسمي، بل وثيقة سياسية ترسم ملامح مرحلة قادمة قوامها:
- تثبيت الوقائع الجديدة
- إعادة تنظيمها بترتيبات متفق عليها
- دفع مختلف الأطراف إلى طاولة الحوار
- الاعتراف بوجود قضايا جوهرية تحتاج حلولًا سياسية شجاعة
ومع استمرار التحركات الميدانية والسياسية، يبقى العامل الحاسم هو قدرة الأطراف على التقاط إشارات اللحظة، وتوظيفها لبناء حالة استقرار مستدام، بدلاً من استنزاف جديد لا طائل منه.