تشهد الجغرافيا الجنوبية في الأيام الأخيرة إعادة تشكّل واضحة في معادلة القوة، بعد أن أحرزت القوات المسلحة الجنوبية تقدّمًا نوعيًا في محافظة المهرة، ممهّدة لمرحلة جديدة من الضبط الأمني وإعادة بناء النفوذ المؤسسي في واحدة من أعقد المناطق وأشدها حساسية على خارطة الجنوب، ويأتي هذا التطور امتدادًا لنجاحات ميدانية سابقة في وادي حضرموت، حيث تمكّنت القوات من إنهاء حالة الانفلات التي غذّتها تشكيلات تابعة لجماعات متطرفة، لطالما مثّلت مصدر تهديد مباشر لاستقرار الجنوب.
مسار عملياتي متدرج.. وقراءة لما وراء الحدث
من خلال متابعة دقيقة لخط سير العمليات، يظهر أن التقدم في المهرة لم يكن نتيجة تحرك مفاجئ، بل حصيلة نهج عسكري متدرج جرى بناؤه بتخطيط محكم، اعتمد على التمركز المرحلي وتحييد مصادر الخطر قبل الانتقال إلى محاور جديدة.
هذا النمط منح القوات قدرة على التحرك بثبات دون خلق فراغات أمنية، وأعاد توزيع الأدوار العسكرية بطريقة تتوافق مع طبيعة الأرض وخصوصيتها.
وبحسب تحليل العين الثالثة، فإن هذا الأسلوب لا يعكس فقط إدارة عملياتية ناجحة، بل يشير إلى رؤية استراتيجية بعيدة المدى تستهدف إعادة تنظيم المجال الجغرافي للجنوب، وضمان عدم عودة بؤر التوتر أو تموضع الجماعات المعادية مجددًا.
الأهمية الاستراتيجية.. بوابة الشرق ومفصل الأمن القومي
تكتسب محافظة المهرة موقعًا استثنائيًا باعتبارها الامتداد الشرقي المفتوح على حدود بحرية وبرية واسعة، ما يجعلها ركيزة أساسية لأي منظومة أمنية جنوبية، فإحكام السيطرة على مناطقها الحيوية يحدّ من نشاط شبكات التهريب والعبور غير المشروع التي مثّلت لعقود واحدة من أهم مصادر الاضطراب الأمني.
كما أن هذا التقدم يعزز قدرة الجنوب على إدارة ملفاته الاقتصادية والتجارية، عبر ضبط المنافذ وتفعيل الرقابة المؤسسية، وهو ما تراه العين الثالثة خطوة ضرورية لبناء بيئة مستقرة قادرة على جذب الاستثمار وتوفير متطلبات الأمن الاقتصادي.
تأثير النجاح العملياتي.. من حضرموت إلى المهرة
إن انتقال الزخم العسكري من وادي حضرموت إلى المهرة لم يكن مجرد توسع رقعة انتشار، بل يعكس منهجية واضحة تقوم على ترسيخ الاستقرار في كل منطقة قبل الانطلاق نحو أخرى، هذا النهج خفّف من الضغط الميداني، وضمن تموضعًا ثابتًا للقوات، وأوجد حالة من الطمأنينة لدى السكان الذين لطالما عانوا من نشاط الجماعات المسلحة وأجندات القوى التي أدارت مناطقهم بمعزل عن الدولة.
وتشير قراءة العين الثالثة إلى أن هذا التسلسل العملياتي يعبّر عن تحول نوعي في قدرة الجنوب على إدارة معاركه، ليس فقط عسكريًا، بل مؤسسيًا وتنظيميًا على مستوى أعلى.
نحو معادلة جديدة.. الجنوب يرسّخ خطواته
لا تبدو التطورات في المهرة حدثًا منفصلاً، بل حلقة متقدمة في مسار تحرري يخوضه الجنوب منذ سنوات، ويهدف إلى إعادة بناء دولته وتعزيز سيادته على كامل ترابه الوطني، فالتقدم الميداني المصحوب بإسناد شعبي، والقدرة على تأمين مناطق كانت تُعد من أعقد الملفات، يؤكد أن الجنوبيين يسيرون بثبات نحو تحقيق مشروعهم السياسي دون تراجع.
من زاوية تحليلية، تكشف التطورات الأخيرة أن الجنوب دخل مرحلة جديدة من إعادة تشكيل المشهد الأمني، قائمة على الحسم في بؤر التوتر، والانتقال المنظم، والتمكين المؤسسي، ومع أن الطريق لا يزال طويلاً، إلا أن اتجاه الأحداث يشير إلى أن الجنوب يمضي نحو تثبيت معادلة أمنية مستقرة، وفتح صفحة مختلفة تتأسس على سيادة الدولة وقدرتها على إدارة مواردها وحدودها.