في خضمّ المشهد اليمني المعقد، تبرز العلاقة بين الجنوب والشمال كمعادلة دقيقة تتقاطع فيها المصالح الوطنية مع الثوابت السياسية، وتختبر فيها موازين القوة والعقلانية في آنٍ واحد. هذه العلاقة، التي يديرها المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، لم تعد رهينة الشعارات، بل أصبحت نموذجًا لتوازن الضرورة: شراكة ظرفية ضد الحوثي، دون مساس بحق الجنوب في السيادة والقرار.
عدو مشترك.. وتحدٍ مستمر
يدرك الجنوب أن الخطر الحوثي لا يستهدف منطقة بعينها، بل يمسّ بنية الدولة وأمن الإقليم بأسره. لذلك، حافظت القيادة الجنوبية على موقفها الثابت في دعم الجهود العسكرية والأمنية لمواجهة المليشيا الحوثية المدعومة من إيران، باعتبارها العدو الأول الذي يهدد الأمن القومي العربي.
في الوقت ذاته، يحرص الجنوب على التمييز بين مواجهة التهديد المشترك وبين الانخراط في مشاريع سياسية عابرة للهوية الجنوبية. فالتنسيق مع قوى الشمال في إطار مجلس القيادة الرئاسي يأتي انطلاقًا من المسؤولية الوطنية، وليس بوصفه تنازلًا عن مشروع الاستقلال أو تبديلًا في الثوابت.
إدارة حكيمة للعلاقة
في قراءة “العين الثالثة” للمشهد، يتضح أن المجلس الانتقالي الجنوبي يتبع سياسة ضبط التوازن في تعامله مع الشمال: شراكة ميدانية محدودة الإطار، ولكنها محكومة بالهدف العسكري المشترك، مع التزام كامل بعدم السماح بانزلاق الخلافات السياسية إلى ساحة الصراع.. تلك الإدارة المتزنة للعلاقة تعكس نضجًا سياسيًا وخبرة ميدانية تراكمت عبر السنوات، إذ يدير الجنوب ملف الشراكة مع الشمال بقدرٍ من المسؤولية يمنع تجدد دورات الصراع، ويضمن أن تظل البوصلة متجهة نحو العدو الحقيقي.
الجنوب.. ثوابت لا تتبدّل
رغم شراكة الضرورة، لم يتراجع الجنوب قيد أنملة عن حقه في استعادة دولته وبناء مؤسساتها المستقلة على أسس من العدالة والمواطنة المتساوية.. ويؤكد المجلس الانتقالي أن تضحيات الشهداء الذين سقطوا في ميادين الدفاع عن الأرض والهوية، تشكل مرجعية وطنية لا يمكن المساس بها أو التفاوض حولها.
القضية الجنوبية لم تعد ملفًا مؤجلًا، بل أصبحت واقعًا سياسيًا متجذرًا في الداخل ومفهومًا لدى الخارج، وهو ما ينعكس في المواقف الدولية المتزايدة التي تنظر إلى الجنوب بوصفه شريكًا محوريًا في أي عملية تسوية مستقبلية.
توازن بين الحرب والسياسة
الجنوب اليوم لا يقاتل فقط دفاعًا عن حدوده، بل يخوض معركة الوعي والسيادة. ففي الوقت الذي يشارك فيه بفاعلية في جهود استقرار المناطق المحررة ومكافحة الإرهاب الحوثي، يواصل المجلس الانتقالي بناء مؤسسات الحكم المحلي وتعزيز الإدارة الأمنية والخدمية، في تأكيد واضح على قدرته على إدارة دولة بمفهومها الحديث.
ومن زاوية “العين الثالثة”، فإن هذا التوازن بين الالتزام العسكري والتحرك السياسي يمثل ركيزة استراتيجية في نهج القيادة الجنوبية، التي تسعى إلى حماية مكتسبات الجنوب وتكريس مبدأ الشراكة العادلة مع احترام كامل للسيادة الوطنية.
نحو مستقبل آمن ومستقل
يؤمن الجنوبيون أن السلام الحقيقي يبدأ من الاعتراف المتبادل بالحقوق والسيادة، لا من إعادة إنتاج المركزية القديمة التي أثبتت فشلها.. وعليه، فإن أي حلول قادمة لا يمكن أن تتجاهل إرادة شعب الجنوب في تقرير مصيره، ولا يمكن أن تقوم على فرض معادلات قسرية تعيد البلاد إلى دائرة الصراع.
في نهاية المطاف، يظل الجنوب طرفًا مسؤولًا وشريكًا فاعلًا في معركة استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي، لكنه في الوقت ذاته صاحب قضية عادلة ومشروع وطني متكامل يهدف إلى بناء دولة جنوبية مستقلة، آمنة، ومزدهرة، تسهم في استقرار الإقليم وتعزز قيم التعاون والاحترام المتبادل بين الشعوب.
بهذا المنظور، تقدم “العين الثالثة” قراءتها للمشهد الجنوبي كمرآة للواقع السياسي والعسكري الراهن: الجنوب يقاتل بحكمة، ويفاوض بثقة، ويحافظ على بوصلة القضية التي لا تعرف الانحناء.