آخر تحديث :الإثنين - 17 نوفمبر 2025 - 11:10 م

من التنوين اللغوي إلى السياسي

الخميس - 17 أبريل 2025 - الساعة 07:37 ص

جسار مكاوي
الكاتب: جسار مكاوي - ارشيف الكاتب




إن الكلمات ليست بريئة.. إنما تحمل في طياتها مواقف، وتُفصح أحياناً عن نوايا، وتُخفي في أحيان أخرى موقفًا يتوارى خلف نحويةٍ خجولة. في عالم السياسة لا تُقال الكلمات عبثاً. كل لفظٍ محسوب، وكل حركة لغوية قد تُترجم موقفاً، وكل تنوين قد يجرّ خلفه تأويلاً سياسياً يسبق الفعل، ويتفوّق أحياناً على التصريح الرسمي، وما بين "دولةٍ جنوبيةٍ" و "الدولةُ الجنوبيةُ" يسكن فارقٌ لغويّ ظاهري، لكنه سياسيٌ عميق، لا يقل خطورة عن موازين القوى على الأرض.

في الجنوب حيث تتقاطع الجغرافيا بالتاريخ، وتُختزل أحلام الشعوب في مفردات، صار للغة حساباتها. فالتنوين الذي يعدّه النحويون أداةً من أدوات التنكير، قد يستخدمه السياسيون لتفريغ المعنى من دلالته. وعندما تُقال "دولةٌ جنوبيةٌ" فإنها تشير إلى كيان غير محدد، محتمل، متخيل. أما "الدولةُ الجنوبيةُ" فتعني الاعتراف، التحديد، القطع، والهوية الكاملة. وهنا تتجلى مفارقة اللغة حين تتحول من أداة للتعبير إلى أداة للمناورة.

كم من مرة استُخدمت المفردات المحايدة ظاهريًا لترويج مشاريع سياسية لا تقل خطورة عن البنادق؟ وكم من "لغة سلام" كانت مدخلاً لحرب؟ وكم من "بيان توافق" كانت تنقصه فقط تنوينات الحسم ليتحول إلى اتفاق مُلزِم؟ في خطاب الكثير من السياسيين والناشطين والبيانات الدولية، تُختار الكلمات بعناية مفرطة، ليس حبًا بالنحو، بل اتقاءً لوضوح الموقف. تُقال "القضية الجنوبية" لا "الحق الجنوبي"، ويُقال "مطالب الجنوبيين" لا "استحقاقاتهم"، ويُقال "الحل العادل للقضية الجنوبية" لا "استعادة الدولة الجنوبية". والغريب أن هذا الانزلاق اللفظي، الذي يُبرره البعض بـ "التحايل الدبلوماسي"، صار أداة لتكريس واقع مشوّه، يسكنه اللااعتراف، ويطيل أمد الغموض السياسي، ويمنح الخصوم هامشاً واسعًا للتهرب من الاستحقاقات. اللغة ليست محايدة. هذا ما تعلمناه من التجربة، من الخطابات، من البيانات الصادرة، من المراسلات الرسمية، بل حتى من الدساتير المؤقتة والاتفاقات. اللغة تصوغ الحق أو تميعه. تبني الهوية أو تذيبها. وهنا يجب أن نكون على وعيٍ تام بأن معركتنا ليست فقط على الأرض، بل أيضًا في النص. في الكلمة. في الحرف. في التنوين نفسه.

من التنوين اللغوي إلى السياسي تتجلى معارك الشعوب في تفاصيل دقيقة لا يلتفت إليها إلا من وعى أن النحو ليس ترفًا، وأن الكلمة التي تُقال في غير موضعها قد تُفهم كما يريدها خصمك لا كما تقصدها أنت. لذا فلنقلها صريحة واضحة: نحن لا نطلب "دولةً جنوبيةً" محتملة، بل نُطالب بـ "الدولةِ الجنوبيةِ" الحاضرة، المتجذّرة، التي لن يُنكرها تنوين، ولن يغطيها سكوت.




شاهد أيضًا

عاجل | أحزاب المعارضة تعارض لجنة تحقيق غير رسمية وصفقة إف-35 ...

الإثنين/17/نوفمبر/2025 - 06:48 م

انتقد رؤساء الأحزاب الصهيونية في المعارضة خلال اجتماعات كتلهم في الكنيست اليوم الإثنين، قرار الحكومة أمس، تشكل لجنة تحقيق غير رسمية في إخفاقات 7 أكتوب


شرطة دبي وسعت نطاقها.. ما هي رادارات الضجيج وكيف ترصد المخال ...

الإثنين/17/نوفمبر/2025 - 06:38 م

لأنها دانة الدنيا، ووجهة الزائرين من كل حدب وصوب، لا يتوقف التطور في دبي عند حد معين، ومؤخراً أعلنت شرطة دبي توسیع نطاق تشغيل رادارات الضجيج» في مختلف


اختتام دورة مهارات الخطابة والخطاب السياسي للشباب القيادي في ...

الإثنين/17/نوفمبر/2025 - 06:25 م

اختتمت في العاصمة عدن، اليوم، فعاليات اليوم الثالث والأخير من دورة “مهارات الخطابة والخطاب السياسي للشباب القيادي”، التي نظمتها مؤسسة فريدريش إيبرت ال


اللجنة المصرية بغزة توزع الخيام وتقدم الدعم للمتضررين من الط ...

الإثنين/17/نوفمبر/2025 - 08:00 ص

كتفت اللجنة المصرية في قطاع غزة جهودها الميدانية بعد موجة الأمطار الشديدة التي ضربت القطاع خلال الساعات الماضية، وذلك وفقا لقناة القاهرة الإخبارية. وش