يعود "صندوق صيانة الطرق والجسور" من جديد إلى واجهة النقاش الإعلامي والأوساط الشعبية في اليمن، بعد أن أوقفت وزارة المالية حسابه المالي. خطوة فاجأت الكثيرين وأثارت جدلاً واسعًا، خاصةً بعد الاتهامات المتكررة التي طالت إدارة الصندوق من حيث سوء إدارة موارده وارتفاع مستوى الفساد في أروقة أضخم صندوق إيرادي في اليمن.
المتتبعون يرون أن هذا القرار خطوة جريئة لإيقاف عبث دام سنوات، كان محميًا من قبل مسؤولين في الحكومة، على رأسهم رئيس الوزراء السابق د. معين عبد الملك، الذي دعم إدارة الصندوق ودافع عنها رغم فضائح الفساد العلنية التي كشفت العام الماضي على يد وزير الأشغال العامة والطرق، المهندس سالم الحريزي.
الفضائح المتلاحقة: هل يُمكن تجاهلها بعد الآن؟
لم تكن قضية الفساد في الصندوق جديدة، إذ تصدرت اهتمام الناشطين العام الماضي بعد تصريحات مباشرة من الوزير الحريزي، فضحت تجاوزات كبيرة على الهواء مباشرة. وأصبحت هذه التصريحات بمثابة كاشف للعامة عما كان يُخفى لسنوات. حيث جاءت اتهامات الفساد في ظل رعاية حكومية لهذه الإدارة المثيرة للجدل، وغطاء قوي وفّر لها الحصانة، وسمح لها بالاستمرار في استنزاف موارد البلاد دون رقيب أو حسيب.
ويرى مراقبون أن فضائح إدارة الصندوق باتت طاغية على أي محاولات تجميلية، خاصة بعد تسريب وثائق رسمية كشفت عن كيفية صرف أموال الصندوق، وعدم اتباع إجراءات قانونية سليمة في منح المشاريع وتنفيذها. كل هذه الفضيحة كانت مدعومة بإعلانات تروج لـ"إنجازات الصندوق" في مشاريع لا يعرف المواطن عنها سوى الأسماء، في حين يؤكد الخبراء أنها غير موجودة أو مُبالغ في تكلفتها المالية.
كيف يعمل الصندوق؟
تأسس "صندوق صيانة الطرق والجسور" بهدف صيانة وإعادة تأهيل شبكة الطرق والجسور اليمنية، التي تُعتبر شريانًا حيويًا للبنية التحتية. يعتمد الصندوق في ميزانيته على رسوم مستقطعة من مشتقات النفط، حيث تُخصص 5% من قيمة كل لتر ديزل أو بترول لصالح الصندوق. ويُفترض أن يتمكن هذا المبلغ الضخم من تحقيق تحسينات ملموسة في الطرق، غير أن ما يُنفق فعليًا على مشاريع الصيانة قليل، مقارنة بحجم الإيرادات الضخمة التي يجمعها الصندوق، بحسب مراقبين.
وبموجب القانون، يخضع الصندوق لإشراف مباشر من وزير الأشغال العامة والطرق، وتُعتبر أمواله أموالاً عامة يجب أن تخضع لمراجعة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ووزارة المالية. لكن العديد من الأدلة تشير إلى أن إدارة الصندوق لم تلتزم بتقديم التقارير المالية السنوية، كما تجاهلت الالتزام بأوامر الوزارة.
ملفات الفساد الإداري والمالي: تفاصيل لا يمكن تجاهلها
أظهرت وثائق مسربة أن رئيس مجلس إدارة الصندوق الحالي متورط في مخالفات مالية وإدارية، تشمل فتح حسابات في بنوك خاصة، وتغيير أختام الصندوق، وتهميش مجلس الإدارة. ورغم قرارات إيقافه الصادرة عن وزير الأشغال العامة السابق، إلا أن رئيس الوزراء السابق معين عبدالملك تدخل لإلغاء هذه القرارات، مما أتاح للفساد الاستمرار.
ورغم تكثيف النشر عن فساد الصندوق في الصحف والمواقع الإلكترونية، لم تتخذ الإدارة أي خطوات جدية للحد من هذا الفساد، بل تتهمها مصادر باستخدام الأموال العامة لرشوة وسائل الإعلام والناشطين لمنع نشر المزيد من التحقيقات. كما يُشير مقاولون إلى ممارسات مشبوهة تتضمن منح مشاريع لشركات معينة دون طرح مناقصات عادلة.
تداعيات الفساد على الطرقات العامة
يشهد اليمن تزايدًا في الحوادث المرورية، ووفقًا لإحصاءات "تكتل السائقين"، فقد بلغ عدد الحوادث العام الماضي أكثر من 1000 حادث، أسفرت عن مقتل وإصابة مئات المواطنين. ويُعزى جزء كبير من هذه الحوادث إلى تدهور حالة الطرق، نتيجة عدم الصيانة الدورية وإهمال مشاريع البنية التحتية التي كان يُفترض أن يشرف عليها الصندوق.
معركة الحكومة الجديدة مع الفساد: هل من أمل في الإصلاح؟
بعد تعيين رئيس الحكومة الحالي، هناك تساؤلات حول مدى قدرته في مكافحة الفساد الذي تخلل صندوق صيانة الطرق والجسور. يرى مراقبون أن نجاحه يتوقف على مدى جديته في تفعيل دور الرقابة والمحاسبة في الصندوق، واستعادة دور مجلس الإدارة، واتخاذ قرارات حاسمة لملاحقة المتورطين ومحاسبتهم أمام القضاء.
فساد مزمن
بات واضحًا أن صندوق صيانة الطرق والجسور يعاني من فساد مزمن، امتد لسنوات وأثقل كاهل المواطن اليمني الذي يدفع الثمن من أمنه وسلامته على الطرق. ومع تولي رئيس حكومة جديد، يتطلع الجميع إلى خطوات جدية لكبح جماح هذا الفساد المستشري، والعمل على استغلال موارد الصندوق بشكل فعّال لصالح المواطنين. هل ستنجح الحكومة الحالية في هذه المواجهة الأخيرة؟
مواجهة الفساد: رؤية للمستقبل
في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يواجهها اليمن، يعد التصدي للفساد في صندوق صيانة الطرق والجسور ضرورة ملحة. لا يكفي أن تُجري الحكومة تغييرات شكلية، بل يجب أن تضع استراتيجية شاملة تهدف إلى إصلاح القطاع بأكمله. هناك عدد من الخطوات الأساسية التي يجب اتخاذها لتحقيق هذا الهدف:
-
إعادة الهيكلة الإدارية: ينبغي للحكومة العمل على إعادة هيكلة إدارة الصندوق، بحيث تشمل تعيين قيادات جديدة ذات كفاءة ونزاهة، قادرة على إدارة الموارد بكفاءة وشفافية. يجب أن يتضمن ذلك أيضًا إعادة تقييم جميع العقود والمشاريع المنفذة خلال السنوات الماضية، لضمان عدم وجود أي انتهاكات أو مخالفات.
-
تعزيز الشفافية: من المهم أن تُنشر جميع المعلومات المتعلقة بإيرادات الصندوق ومشاريعه ومصروفاته بشكل دوري. يجب أن يُتاح للجمهور إمكانية الوصول إلى هذه البيانات، مما يعزز من مبدأ الشفافية ويحفز المجتمع المدني ووسائل الإعلام على متابعة الأمور عن كثب.
-
تفعيل دور الرقابة: يجب تعزيز دور الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وزيادة فعاليته في الرقابة على أداء الصندوق. يمكن تحقيق ذلك من خلال تزويد هذا الجهاز بالموارد البشرية والتقنية اللازمة، وتمكينه من إجراء تحقيقات دقيقة في حالات الفساد المشتبه بها.
-
الشراكة مع المجتمع المدني: يجب إشراك منظمات المجتمع المدني في عمليات المراقبة والتقييم، حيث يمكن أن تلعب هذه المنظمات دورًا هامًا في الضغط من أجل تحقيق الإصلاحات. يمكن إنشاء منصات تفاعلية تسمح للمواطنين بتقديم الشكاوى والملاحظات حول مشاريع الصيانة، مما يسهل عملية الإبلاغ عن أي تجاوزات أو قضايا فساد.
-
تطبيق العقوبات: يجب على الحكومة أن تكون صارمة في التعامل مع المخالفات، عبر تطبيق عقوبات رادعة ضد أي شخص يثبت تورطه في الفساد. إن الشفافية والمحاسبة الفعالة هما السبيلان الوحيدان لاستعادة ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية.
-
تعليم وتوعية المجتمع: يُعتبر رفع الوعي المجتمعي حول أضرار الفساد وحقوق المواطنين جزءًا أساسيًا من استراتيجية الإصلاح. يجب أن تُنظم حملات توعية تعليمية تشدد على أهمية النزاهة والشفافية، وكيفية تأثير الفساد على المجتمع بشكل عام.
تجارب دولية: دروس مستفادة
يمكن أن تستفيد الحكومة اليمنية من تجارب دول أخرى عانت من الفساد، مثل إندونيسيا وكينيا، إذ تمكنت هذه الدول من استعادة ثقة مواطنيها من خلال تنفيذ إصلاحات جذرية. على سبيل المثال، اعتمدت إندونيسيا على تكنولوجيا المعلومات لتفعيل الشفافية، مما أتاح للمواطنين متابعة أوجه الإنفاق الحكومي.
مواجهة الفساد: التحديات الأكبر
إن مواجهة الفساد في صندوق صيانة الطرق والجسور ليست مجرد مسألة إدارية، بل هي جزء من التحديات الأكبر التي تواجه اليمن. يتعين على الحكومة الجديدة أن تدرك أن الإصلاح يتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الجهات المعنية، وإرادة سياسية قوية لمكافحة الفساد، وإعادة بناء الثقة مع المواطنين.
إذا ما تمت معالجة هذه القضية بشكل شامل، فإنها ستشكل خطوة مهمة نحو تحسين جودة الحياة في اليمن، وضمان أن تُستخدم الموارد العامة لتحقيق المنفعة العامة بدلاً من أن تُستنزف في ممارسات غير قانونية. وفي نهاية المطاف، يظل الأمل معقودًا على جهود الحكومة الحالية، فهل ستتمكن من إحداث الفارق المطلوب؟ الزمن كفيل بالإجابة على هذا السؤال.