آخر تحديث :الأحد - 19 أكتوبر 2025 - 07:00 ص

آراء

حين انتصر البيت للمدينة: شهادة الدم وصوت الحكمة في ذاكرة عدن

الإثنين - 11 أغسطس 2025 - الساعة 08:36 ص

الكاتب: جسار مكاوي - ارشيف الكاتب

في الثاني عشر من أغسطس عام 1998م، رحل عن عدن أحد أبنائها الكبار، المناضل عبد القوي حسن مكاوي، والد الشهداء الثلاثة (عادل وجلال وسمير) الذين ارتقت أرواحهم الطاهرة في لحظة غدرٍ كان الهدف منها إطفاء نور بيتٍ جنوبيٍّ أصيل، شكّل في وعي الناس عنوانًا للنضال والمواقف والمبادئ التي لا تُشترى ولا تُستبدل. لم تكن تلك الحادثة، بما حملته من وجع وفقدٍ وكسرٍ في قلب المدينة، مجرد مأساة عائلية، بل كانت لحظة فارقة في الذاكرة السياسية والاجتماعية للجنوب. فعدن حينها لم تكن مدينة عادية؛ كانت وما زالت روحًا مدنية متجذرة، تنبض بالتعدد والتسامح والرقي، ويغلي في عروقها تاريخ من الأدب والنضال والفكر والعمل النقابي والثقافي والوطني. وفي تلك اللحظة تحديدًا، حين اهتزّ الشارع من هول الفاجعة، ارتقى الموقف إلى ما هو أعمق من الحزن: إلى موقف أخلاقي وسياسي ومدني، سطّرته أم الشهداء – رحمها الله – بوعيها وثباتها، حين رفضت بشكل قاطع أي انزلاق إلى دوائر العنف أو رد الفعل. ذلك الرفض، في ذروة الغضب، لم يكن حيادًا، بل كان قمة الشجاعة السياسية. لقد أدركت – بحدس الأمهات وعدالة الموقف – أن الدم لا يُداوى بالدم، وأن عدن لا تحتمل التمزق، ولا تقبل العبث بسلمها الأهلي. كانت أم الشهداء، في لحظة كبرى من لحظات الجنوب، تحمي المدينة من ذاتها، وتحرس المعنى الأسمى للكرامة والتمدّن، وتؤكد أن هذا البيت – بيت آل المكاوي – لن يكون منطلقًا للثأر، بل سيظل حصنًا للقيم، ومرجعية للوعي، ورمزًا للثبات.

المناضل عبد القوي حسن مكاوي
المناضل عبد القوي حسن مكاوي

وما كان هذا الموقف إلا امتدادًا لمسيرة نضالية طويلة، سطّرها عبد القوي مكاوي بصلابة فكرية وعمل سياسي وطني راقٍ، وانتماء مطلق لقضية الجنوب وعدن. كان أحد الذين فهموا باكرًا أن النضال لا يكتمل إلا إذا اقترن بالمسؤولية، وأن الوطنية لا تُقاس بالشعارات، بل بالقدرة على اتخاذ الموقف الصحيح في التوقيت الصعب. لقد حمل عدن في قلبه حتى آخر نفس، ودفع ضريبة الانتماء بثمن لا يُقدّر: فلذات كبده.

وما يميّز هذا البيت، أن تضحياته لم تكن لحظة منفلتة في التاريخ، بل امتداد لجذور غائرة في أعماق عدن، تشكّلت على مدار أجيال من العمل والالتزام والمسؤولية. بيتٌ لم يكتفِ بالمواقف العاطفية، بل كان مشاركًا في بناء الوعي الوطني، حارسًا للهوية، شريكًا في المدنية، حاضرًا في الثقافة، مؤثرًا في السياسة. من الميناء إلى المدرسة، من النقابة إلى البرلمان، من الفكرة إلى الموقف، ظل هذا البيت يمارس دوره الطبيعي في صنع العدنيّ الأصيل، الملتزم، المنفتح، الرافض لكل ما يشوّه ملامح المدينة أو يعبث بسلامها.

وحين ننظر إلى الحاضر، وما تمرّ به عدن من تحديات، وما تواجهه من اختلالات، ندرك أن الحاجة إلى هذا النموذج تتزايد أكثر من أي وقت مضى. الحاجة إلى صوت الحكمة، إلى الموقف الهادئ في وجه الانفعال، إلى مدنية تضبط إيقاع الغضب، وتؤمن بأن مشروع الدولة لا يُبنى على جراح الآخرين، بل على احترام الإنسان، وتقديس العدالة، ورفض الانحدار إلى الفوضى.

إن استحضار موقف أم الشهداء، وتضحيات عبد القوي مكاوي، ليس عملًا نوستالجيًا نابعًا من الحنين، بل هو ضرورة سياسية ووطنية وأخلاقية. هو تأكيد على أن الجنوب لا يمكن أن يُبنى بردود الأفعال، ولا أن يُقاد بعناوين الثأر، بل بقيم الكبار الذين واجهوا الطعنات بصدور مفتوحة، ووقفوا في قلب العاصفة دون أن يصرخوا، لأنهم كانوا يعرفون أن التاريخ سيتكلم يومًا، وأن صمتهم سيكون أشد بيانًا من كل الكلام.

وفي ذكرى رحيله، فإن أقل ما يمكن تقديمه، ليس فقط الدعاء، بل الإصرار على رفع هذا النموذج عاليًا، وتدريسه في وعي الأجيال، وتثبيته في ثقافة السياسة، وتمجيده في لغة المدنية. فعدن لا تزال تنزف من جراح كثيرة، لكنها لا تزال أيضًا قادرة على إنتاج النماذج، وعلى بعث الحياة من قلب الحزن، حين يكون البيت في مستوى المدينة، وحين تنتصر الحكمة على الغضب، ويعلو صوت الإنسان فوق ضجيج القتل.

في النهاية، لسنا نكتب عن الماضي، بل نكتب من أجل المستقبل. نكتب لكي لا ننسى أن هناك بيوتًا، حين يشتد الظلام، تتحول إلى منارات. وبيت آل المكاوي كان وسيبقى واحدة من هذه المنارات.