تسبّب قرار الرئيس دونالد ترمب بإقالة رئيسة مكتب إحصاءات العمل الأميركية في إثارة حالة من القلق بشأن مصداقية آليات جمع البيانات الاقتصادية الرسمية، في وقت تزداد فيه الحاجة إلى معلومات موثوقة تشخّص صحة أكبر اقتصاد عالمي.
وتُظهر تجارب دول أخرى أن الثقة بالبيانات الرسمية تُفقد بسهولة، وأن استعادتها قد تستغرق سنوات طويلة، مع تداعيات واسعة على المستثمرين وصناع القرار، وفق �رويترز�.
ويشكّل اختيار البديل المناسب لإريكا ماكنتارفر التي اتهمها ترمب، دون تقديم أدلة، بالتلاعب في أرقام الوظائف، بعد إصدار بيانات أقل من المتوقع، الاختبار الأساسي الأول لهذه المعضلة.
وقال مدير دراسات السياسات الاقتصادية في معهد �أميركان إنتربرايز� المحافظ، مايكل ستراين: �تخيل أن مخاوفك تتعلّق بأن شخصاً معيناً من الموالين للرئيس يتحكم في وكالة الإحصاءات، وأن الأرقام التي تعتمد عليها مزيفة بالكامل�. وأضاف: �هذا مستوى جديد كلياً من المشكلات يهدّد ثقة الجميع�.
وفي ظل محاولات صُنّاع السياسات، والشركات، والمستثمرين فهم تأثير محاولات ترمب إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي على الأسعار والتوظيف والثروة الأسرية، أصبحت البيانات الاقتصادية محوراً رئيساً؛ إذ باتت البنوك المركزية التي كانت ترسم تحركاتها المستقبلية على توقعات أسعار الفائدة، تعتمد بشكل متزايد على هذه البيانات في اتخاذ قراراتها، فيما تواجه الجهات المختصة صعوبات متزايدة في جمعها.
فقد شهد مكتب إحصاءات العمل الذي كان يعاني أصلاً من تقليص الموارد في ظل ضغوط الديون الحكومية، تحديات كبيرة في جمع بيانات دقيقة، خصوصاً مع تراجع فاعلية الاستطلاعات الهاتفية التي تشكّل العمود الفقري للبحوث الاقتصادية. وتواجه هذه الاستطلاعات مشكلة انخفاض عدد الأسر التي تملك خطوط هاتف ثابتة، مما يقيّد حجم العينات المتاحة.
الاتهامات التي أطلقها ترمب بوصف ماكنتارفر بأنها �معيّنة سياسياً من إدارة بايدن� أضافت بُعداً سياسياً خطيراً، وهو ما يمثّل علامة تحذير عادة ما ترتبط بالدول التي تواجه مشكلات عميقة في ديمقراطياتها وفي آليات الضبط والرقابة.
وتُظهر الدروس المستفادة من تجارب فقدان الثقة بالبيانات عبر العالم أن استعادة هذه الثقة قد تحتاج إلى سنوات طويلة من الإصلاح والتدقيق.
أرقام �مصنوعة يدوياً� وتأثيرها
عندما أعلنت الأرجنتين العام الماضي أول معدل تضخم أحادي الرقم منذ فترة، شكّك كثيرون في صحة الأرقام، مستذكرين عمليات التلاعب الكبيرة التي شهدتها تقارير التضخم على مدى عقدَيْن، والتي أدت إلى توبيخ الأرجنتين من صندوق النقد الدولي.
وقال ألدوم أبرام، من مؤسسة �الحرية والتقدم� في بوينس آيرس: �لقد تلاعبوا بالبيانات لفترة طويلة، ومن الطبيعي أن يبقى الناس متشككين في هذه الأرقام�.
وفي تركيا، شهد معهد الإحصاء تغييرات متكررة على رئاسته منذ 2019، وسط اتهامات سياسية من المعارضة، مما أدى إلى تآكل تدريجي في ثقة المستثمرين بالأرقام الرسمية، حسب روجر ماركس، محلل الدخل الثابت في شركة �نانيتي وان� لإدارة الأصول.
أما في اليونان فقد استغرقت الأزمة التي نشأت بسبب محاولات إخفاء العجز المالي سنوات طويلة لإصلاحها، بما في ذلك إعادة هيكلة وكالة الإحصاء الوطنية �إلستات� في 2016، وتعيين لجنة دولية من الخبراء لإعادة بناء مصداقيتها، مما أعاد الثقة تدريجياً بالأرقام المالية.
كما دفعت هذه التجربة الحكومات الأوروبية إلى منح مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) صلاحيات أوسع لمراجعة الإحصاءات الوطنية المشكوك فيها.
وفي الصين، ظل تاريخ الشكوك في دقة البيانات حاضراً رغم جهود الإصلاح، خصوصاً بعد اعتراف رئيس الوزراء السابق لي كه تشيانغ عام 2007 بأن أرقام الناتج المحلي الإجمالي كانت �مصنوعة يدوياً�. وأدت هذه التجارب إلى تبديد ثقة كثير من المستثمرين الأجانب رغم إطلاق قياسات جديدة لتحسين جودة البيانات خلال السنوات الأخيرة.
وقال المحلل في �كابيتال إيكونوميكس�، جوليان إيفانز-بريتشارد: �حتى مع وجود أسباب منهجية للتغيير، فإن تاريخ البيانات الصينية يجعل الكثيرين يشككون في صحتها، وهذا دليل واضح على صعوبة استعادة الثقة بمجرد تآكلها�.
نظام المحسوبية وتأثيره على البيانات
مع اعتماد المراقبين على بيانات رسمية أحياناً متقطعة، غالباً ما يلجأ مراقبو اقتصادات الأسواق الناشئة إلى التحقق من صحة الأرقام عبر مؤشرات بديلة، مثل مؤشرات نشاط الشحن واستهلاك الكهرباء، التي تُعطي صورة جزئية عن الاقتصاد.
ومع أن هناك بيانات واستطلاعات رأي يجريها باحثون مستقلون في كل الاقتصادات الكبرى، فإنها تبقى �بيانات ناعمة� تعتمد على تقييمات شخصية أكثر منها على حقائق كمية.
وقال كبير الاقتصاديين، مدير المحافظ في شركة �إم إف إس� للاستثمار، إريك وايزمان: �الكثير من هذه البيانات تعتمد على أسئلة مثل: كيف تشعر؟ ماذا تعتقد؟ دون سؤال عن تفاصيل ملموسة مثل كمية الإنتاج أو عدد ساعات العمل�.
وأضاف أن إقالة ماكنتارفر قد تدفع المحللين إلى اللجوء أكثر لهذه المصادر البديلة الأقل موثوقية.
الرهان على المستقبل: هل ستتلاشى الأزمة أم تتعمّق؟
السؤال الأبرز الآن هو ما إذا كان قرار ترمب قد تسبب في ضرر دائم لثقة الجمهور بالبيانات الأميركية، أم أن هناك فرصة لإصلاح الوضع واستعادة المصداقية.
وقال الإحصائي السابق في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إنريكو جيوفانيني: �في الولايات المتحدة، هناك مجال أكبر للتعيينات السياسية في المناصب الإحصائية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى التي تعتمد على استمرارية طويلة الأمد�. وأضاف: �الحكومة المقبلة عليها الصبر وعدم التعجل في استبدال المسؤولين؛ فالنظام الحالي من المحسوبية يعمل بطريقة مختلفة هنا�.
وفي هذا الإطار، أصدرت الجمعية الدولية للإحصاء -وهي منظمة مهنية مختصة بجمع البيانات- بياناً شديد اللهجة، عدّت فيه أن قرار ترمب ينتهك المبادئ الدولية التي تحمي الإحصاءات القائمة على الحقائق، داعية الحكومة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لاستعادة ثقة الجمهور بالبيانات الفيدرالية.
وقال صندوق النقد الدولي الذي يراجع بانتظام بيانات اقتصادات أعضائه، إنه لم يصدر تعليقاً مباشراً على القرار، لكنه أكد اعتماده على السلطات الوطنية لضمان تقديم ونشر بيانات دقيقة وشفافة تُسهم في إعداد توقعات موثوقة.
وأضاف أن تقييم جودة البيانات يشمل مراجعة القوة القانونية، وضمان النزاهة، والأساليب المتبعة لضمان الدقة، فضلاً عن توافقها مع المعايير الإحصائية الدولية.
ومن المتوقع صدور تقرير تقييم الاقتصاد الأميركي المقبل في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
تعيينات جديدة وتحديات مستقبلية
يشغل نائب مفوض مكتب إحصاءات العمل، ويليام ويتروفسكي، منصب المفوض بالإنابة حتى يتم تعيين بديل دائم لماكنتارفر. وبعيداً عن هذا القرار، يخشى كثيرون من المخاطر التي قد تترتب على أمر تنفيذي أصدره ترمب يهدف إلى حجز المناصب الفيدرالية للمرشحين الذين يثبتون �التزامهم بالقيم والمصالح الأميركية�، وهو ما قد يشمل وظائف في وكالات الإحصاء الاقتصادية.
قال الباحث الكبير في معهد �دبليو إي أبجون� للأبحاث التوظيفية، آرون سوجورنر: �إذا مُرّر هذا الاقتراح في الكونغرس، فإن الكثير من هذه الوظائف قد تتحول إلى وظائف سياسية، حيث يمكن فصل الموظفين لأي سبب إذا لم يرضوا القيادة السياسية�.