في مقالٍ مطوّل تابعه موقع العين الثالثة، طرح الكاتب الصحفي صالح أبوعوذل سؤالًا مؤلمًا ومركبًا: من أسقط اليمن؟، مستعرضًا عبر سرد تحليلي وشهادة شخصية موثقة كيف انزلقت البلاد من حالة الدولة إلى دوامة الانهيار، مرورًا بانقلاب التحالفات وانفجار الصراعات الداخلية بين مراكز القوى.
استند أبو عوذل في تقريره إلى مشاهدات ميدانية وشواهد تاريخية عايشها بنفسه كصحفي جنوبي عاصر أبرز مراحل الانهيار اليمني، من حروب صعدة، إلى انفجار 2011، فاستهداف النهدين، وانتهاءً بتسليم صنعاء لجماعة الحوثي دون مقاومة تُذكر.
وركز الكاتب على ما وصفه بـ"التحالف الكارثي بين الإخوان والحوثيين"، متهمًا التنظيم الدولي بـ"إعادة صياغة السردية الوطنية" وتحميل الآخرين أوزار مرحلة كانوا فيها شركاء في القرار ومهندسي الخراب.
لم يكن المقال بحثًا عن متهم وحيد، بل توثيقًا لتفكك مشروع الدولة اليمنية بين سذاجة الشعارات وجشع الطامحين، وتأكيدًا على أن الجنوب وحده رفض السقوط، وصاغ مشروع مقاومة تحوّل من ملاذ للشرعية إلى حاضنة لتحرير الأرض واستعادة القرار.
فيما يلي يعيد "العين الثالثة" نشر نص المقال:
خلال الساعات الماضية، طالعنا تدوينة للصحافي الإخواني أحمد الشلفي، ومقطعًا من مقابلة تلفزيونية للقيادي صلاح باتيس، كلاهما يتحدث عن مؤامرة "إسقاط اليمن"، بطريقته الخاصة.
الشلفي حمّل المسؤولية للرئيس الراحل علي عبدالله صالح، بينما روى باتيس تفاصيل لقاء جمعه بالرئيس عبدربه منصور هادي، زاعمًا أنه قدم له نصائح "لو أخذ بها" لما وصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
لكن الحديث بهذه السذاجة، وكأن الذاكرة الجمعية لليمنيين لا تتجاوز ذاكرة ذبابة، فيه إهانة لتاريخ يعرفه كل من عاش تلك المرحلة، فالحقيقة أن ثمة سردية تُصاغ حاليًا، بدفع من قيادة التنظيم الدولي للإخوان، لإعادة كتابة ما حدث بين 2011 و2014 بطريقة تعفيهم من مسؤوليتهم السياسية، بل وتُقدّمهم كضحايا لمؤامرة كونية.
هذه المقالة ليست انفعالًا عابرًا، بل شهادة من صحافي كان شاهدًا على الأيام التي سبقت سقوط صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وما بعدها.
سرد لا يخضع للرقابة، ولا يُراعي مزاج الفضائيات، بل ينطلق من التزام أخلاقي بقول الحقيقة... كما وقعت، لا كما يُراد لها أن تُروى.
نظام صالح والحروب الست
لم يكن نظام الرئيس علي عبدالله صالح مثاليًا، ولم يدّعِ أحد ذلك. فقد كانت الجهوية والمحاباة والولاءات المناطقية تهيمن على مفاصل الدولة.
ومع ذلك، كانت هناك دولة قائمة، وهيبة تُفرض، وحد أدنى من التوازن بين مراكز القوى.
في عام 2004، ظهر التهديد الأكبر، حين قاد حسين بدر الدين الحوثي تمردًا مسلحًا في جبال صعدة. شعر الرئيس صالح أن النظام الجمهوري في خطر، فسارع إلى الدفع بقوات عسكرية – غالبيتها من الضباط والجنود الجنوبيين – لخوض أولى جولات المواجهة مع الجماعة الصاعدة.
منذ ذلك العام وحتى 2009، خاض الجيش اليمني ست حروب ضد الحوثيين. كانت السعودية تساند عبر التغطية الجوية، فيما تكبّد الجيش الوطني خسائر جسيمة، أبرزها استشهاد اللواء عمر العيسي – أحد أبرز القادة العسكريين الجنوبيين الذين قاتلوا في جبال صعدة.
وعلى الرغم من الجولات القتالية الشرسة، كانت المعارك تُجمَّد باتفاقات هدنة هشة، غالبًا ما تنكسر سريعًا، ليُستأنف القتال وسط بيئة مليئة بالفوضى وسوء التقدير.
في العام 2007، وبينما كانت رائحة البارود لا تزال تخنق صعدة، دخلت قطر على الخط معلنةً عن إنشاء "صندوق إعادة إعمار صعدة" وتعويض المتضررين، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات.
لم يكن ذلك مجرد عمل إنساني، بل بدا كغطاء سياسي لدعم جماعة لا تزال تُصنّف حينها كمتمردة على الدولة.
ورغم الحصار الخانق، خرج الحوثيون من تلك المرحلة أكثر تماسكًا. ففي العام 2010، وبعد هدنة طويلة، عادوا للقتال مدججين بأسلحة نوعية، بعضها – وفق ما تم تداوله حينها – أمريكية الصنع، كانت تلك لحظة تحوّل فارقة، ليس فقط في ميزان القوى، بل في مستقبل اليمن نفسه.
انتفاضة 2011... الانفجار الكبير وانشقاق علي محسن
في فبراير 2011، وبينما كانت رياح "الربيع العربي" تجتاح العواصم، وصلت النيران إلى صنعاء. بدأت التظاهرات بخطاب يطالب بالإصلاح، لكن ما لبثت أن تحولت إلى أداة في يد جماعات حزبية، كان أبرزها "جماعة الإخوان المسلمين" التي وجدت في الأزمة فرصة ذهبية للإطاحة بخصمها التاريخي: الرئيس علي عبدالله صالح.
الجنرال علي محسن الأحمر، الرجل الذي كان لسنوات الذراع العسكرية الأقوى للنظام، انقلب فجأة على رئيسه. لم يكن ذلك انشقاقًا أخلاقيًا أو قناعة بالثورة، بل كان تموضعًا سياسياً محسوبًا لحماية مصالحه ومصالح الجماعة التي التحق بها. وبانشقاقه، فتح الطريق أمام الفوضى.
في الوقت ذاته، برز مشهد غريب، الحوثيون الذين كانوا يختبئون في الكهوف، وجدوا أنفسهم فجأة وسط صنعاء بخيام مجهزة، تموّلها جهات لم تُعرف حينها. كانوا يأكلون ما لذ وطاب، ويُعاملون كأنهم شركاء في الثورة، لا كجماعة متمردة خاضت ست حروب ضد الدولة.
كل طرف بدأ يُجمّل دوره. الحوثيون ادّعوا المظلومية، والإخوان تبنّوا خطاب العدالة والحرية، لكن ما جمع الطرفين لم يكن سوى هدف مشترك: إسقاط النظام، ولو على حساب الدولة اليمنية.
في مارس 2011، وقعت مجزرة "جمعة الكرامة"، التي راح ضحيتها أكثر من 50 شابًا. لم تُعرف الجهة التي نفّذت الهجوم بدقة حتى اليوم، لكن جماعة الإخوان سارعت إلى اتهام النظام، فيما اتهم صالح خصومه بالوقوف خلف الجريمة لتأجيج الشارع. دخلت البلاد حينها مرحلة الانفجار الكبير، وانكسر الحاجز الأخير بين الميدان والرصاص.
شعر صالح أن حلفاء الأمس يحيكون المؤامرة عليه من الداخل. أعلن حالة الطوارئ، مستندًا إلى قانون "الجمهورية العربية اليمنية"، في محاولة يائسة لضبط الإيقاع. لكن اللعبة كانت أكبر من صلاحياته، والإعلام الرسمي بدا عاجزًا عن مجاراة الماكينة الإعلامية الإخوانية القطرية، التي كانت تدير المشهد بذكاء وخبث شديدين.
امتدت التظاهرات جنوبًا، لكن قادة الحراك الجنوبي – على رأسهم د. عبدالحميد شكري – رفضوا الانخراط في ما اعتبروه "ثورة ضد الثورة"، وأكدوا أن قضية الجنوب لن تُحل من داخل ساحة جامعة صنعاء، بل من خلال استعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة.
وفي خضم ذلك، دخل القضاء على الخط. النائب العام علي أحمد الأعوش اتهم علي محسن بتعطيل سير التحقيق في قضية جمعة الكرامة، محمّلاً إياه مسؤولية تمييع القضية، وعدم تسليم الأسلحة والأدلة التي استولى عليها المتظاهرون.
ذروة الأحداث كانت في الثالث من يونيو 2011، عندما تم استهداف الرئيس صالح وكبار مسؤولي الدولة أثناء صلاة الجمعة في جامع النهدين. الانفجار كان دقيقًا، والخطيب في ساحة الجامعة– وفق روايات متعددة – كان يُكبّر تزامنًا مع التفجيرات، وكأنه كان يعرف الميعاد. نجا صالح بأعجوبة، لكنه أصيب بجروح خطيرة. نُقل إلى السعودية لتلقي العلاج، وهناك، بدأت ترتسم ملامح نهاية مرحلة وبداية أخرى… أكثر سوداوية.
ما بعد النهدين... تسليم السلطة وتفكيك الدولة
عاد علي عبدالله صالح من رحلة العلاج في الرياض، مثخنًا بجراح التفجير، ومستنزفًا من خيانة الحلفاء. لم يكن الرجل كما كان، لا سياسيًا ولا جسديًا، لكنه فهم أن الزمن انقلب عليه، وأن خصومه في الداخل والخارج اتفقوا – ولو مؤقتًا – على إخراجه من المشهد.
سلّم صالح السلطة طوعًا لنائبه عبدربه منصور هادي، بموجب المبادرة الخليجية، لم تكن هذه المبادرة صفقة شرف، بل كانت – في نظر كثيرين – طوق نجاة للإخوان ومن معهم بعد أن بدأ الحراك الثوري ينكشف على حقيقته كعملية تصفية حسابات لا أكثر.
الانتقال لم يكن انتقالًا... بل قفز في المجهول. فبينما كان صالح يطوي صفحة حكمه الطويل، شرع الإخوان في تفكيك أهم أعمدة الدولة" الجيش"، باسم الهيكلة وتحرير الجيش العائلي.
البداية كانت باستهداف الحرس الجمهوري، أقوى تشكيل عسكري يمني آنذاك، والذي كان بقيادة نجل صالح، العميد أحمد علي. وبدعوى "تفكيك الجيش العائلي"، تم تحييد هذه القوة. لكن الأمر لم يتوقف عند إعادة الهيكلة، بل تم شطبها فعليًا من المعادلة العسكرية.
الأدهى أن قائد هذه القوات، أحمد علي، لم يقاوم. قبل بتعيينه سفيرًا لدى الإمارات، في قرارٍ بدا كصفقة إخراج هادئ للرجل الثاني في النظام، وضمانًا لعدم إشعال صراع مسلح داخل صنعاء.
في هذه الأثناء، أعلنت جماعة الإخوان نصرها. ظهرت توكل كرمان في احتفالية متلفزة، تُلوّح بشارة النصر وتدعو "الثوار" إلى العودة لمنازلهم.
الجميع عاد… إلا الحوثيين.
الحوثيون، الذين تسللوا إلى قلب الثورة، بقوا في الميدان، وحوّلوا ساحة الجامعة إلى مساكن مؤقتة، ثم دائمة. اختفت الخيام الثورية، وحلّ محلها حواجز وتفتيشات، وصور قتلى الجماعة، ولافتات الشعار. كانت الدولة تُخلى من مؤسساتها بالتدريج… بينما كانت الجماعة تحفر عميقًا في قلب العاصمة.
وبينما كان هادي يدير ما يسمى بـ"مؤتمر الحوار الوطني"، ويُقدّم الاعتذارات للحوثيين عن الحروب الست، لم يكن يدرك أن المعركة المقبلة ستكون على أبواب صنعاء، وأن الخصوم لن ينتظروا طويلًا.
في إحدى زياراتي إلى صنعاء حينها، كنت أرى المدينة تتبدل بسرعة مريبة. دخلت "ساحة التغيير"، فلم أجدها كما كانت. كانت الساحة قد تحولت إلى حيٍ للباعة والمخيمات الدائمة، تسكنه الشعارات الحوثية، وتسيّجه أسوار فولاذية، فيما كانت صور الضحايا لا تزال ترفرف كأثر باهت من "ثورة" انتهت إلى لا شيء.
كان صالح حينها يراقب من بعيد، لم يكن في وارد الانتقام. لو أراد ذلك، لفعل يوم تفجير النهدين. لكنه اختار أن يحتفظ بما تبقى من قوات موالية، مثل الحرس الخاص والقوات الخاصة، بينما ظل الجزء الأكبر من الحرس الجمهوري يتفكك بهدوء تحت مسمى "هيكلة الجيش".
لكن الرجل لم ينسَ. وحين ضاقت الخيارات، اختار تحالفًا تكتيكيًا – لا أكثر – مع الحوثيين، خصومه القدامى الذين قتل مؤسسهم حسين الحوثي في عهده.
تحالف هش، غريب، لكنه أظهر كم أن السياسة في اليمن لا تحكمها القيم، بل الحاجة… وحين تكون الدولة غائبة، يغدو الحليف من كان بالأمس عدوًا قاتلاً. "الرئيس العاجز"... هادي في مواجهة الفرقة المنفلتة ومراكز القوى
استلم عبدربه منصور هادي مقاليد السلطة رسميًا، لكنه كان يدير دولة بلا أدوات، ويخاطب جيشًا لا يسمع، ويتعامل مع جنرالات يتبعون ولاءاتهم لا رئاسته. لم يكن هادي يملك من الهيبة شيئًا، سوى علم الجمهورية اليمنية المرفوع على مكتبه.
منذ اليوم الأول، بدا واضحًا أن الرجل محاصر. وحدات عسكرية، خصوصًا تلك التابعة لما كان يُعرف بـ"الفرقة الأولى مدرع" بقيادة الجنرال علي محسن الأحمر، تتصرف باستقلالية شبه تامة. التعليمات تُناقَش، والقرارات تُعطَّل، والتعيينات تُرفض. وكأن "الرئيس" لا يعدو كونه موظفًا في رئاسة جمهورية فارغة من مضمونها.
وتجلّى هذا التمرد بأوضح صوره في محاولة اغتيال هادي يوم 5 ديسمبر 2013، حين دوّى تفجير انتحاري مزدوج في مجمع العرضي بوزارة الدفاع، بينما كان الرئيس يعتزم زيارة أحد أقاربه المصابين في المستشفى. سقط عشرات القتلى، من بينهم ابن شقيقه. نجا هادي، لكنه فهم الرسالة: "أنت لست محصنًا".
وحتى وزير الدفاع الأسبق، محمد ناصر أحمد، لم يسلم من محاولات الاغتيال المتكررة، أبرزها تفجير استهدف موكبه أمام وزارة الدفاع. كان الهاجس الأمني ينهش الجميع، ولم تعد صنعاء آمنة حتى لمن في قمة هرم الدولة.
وفي 7 يوليو 2014، وبعد احتدام المعارك في عمران بين قوات اللواء 310 بقيادة حميد القشيبي ومسلحي الحوثي، قُتل القشيبي بظروف غامضة. ذهب هادي لزيارة عمران، وأعلن أن المحافظة "عادت إلى حضن الدولة"، بينما كانت قد سقطت تمامًا في قبضة الجماعة المسلحة.
الإخوان – الذين كانت لهم الكلمة العليا داخل مؤسسات الدولة بعد 2011 – رفعوا شعار "لن ننجر إلى القتال"، وامتنعوا عن مواجهة الحوثيين. لم يكن ذلك تمسكًا بالسلم، بل رغبة التنظيم الدولي، وترجمة لاتفاق مران بين قادة الجماعة الإسلامية وزعيم المتمردين الحوثيين، فقد فضل التنظيم اليمني أن يتقدم الحوثي لإسقاط الجميع، على أن يُستنزف الإصلاح في معركة غير متكافئة.
كان بيد الإصلاح أكثر من 40 ألف مقاتل جاهزين للمواجهة، لكن تعليمات من "القيادة العليا" ألغت الفكرة. وأكد مدير مكتب عبدالمجيد الزنداني في مقابلة صحفية حينها أن "التدخل العسكري في عمران لا مصلحة فيه".
وفي 21 سبتمبر 2014، دخل الحوثيون صنعاء بلا مقاومة تُذكر. وزير الداخلية المحسوب على الإخوان، عبده الترب، أصدر توجيهًا إلى أقسام الشرطة والمراكز الأمنية بعدم اعتراض "أنصار الله". وهكذا، اجتاحت الجماعة العاصمة، فيما كانت الحراسات حول منزل هادي وحدها التي قاتلت، بقيادة العميد صالح الجعيملاني، وجميع افراد الحراسة من لودر وأبين.
لم تُسجَّل مواجهة حقيقية، ولم تنفجر معركة العاصمة كما توقع البعض. كنت شخصيًا قد أعددت تحليلاً عن سيناريو حرب دامية قد تندلع دفاعًا عن صنعاء، لكن ما حدث هو تسليم شبه كامل، حتى أن اتفاق "السلم والشراكة" تم توقيعه تحت أزيز الرصاص.
بينما كانت بنادق الحوثيين تحاصر القصر الجمهوري، كان الإخوان يُجهّزون لما بعد هادي. حميد الأحمر وعد محمد سالم باسندوة بأنه سيكون الرئيس التالي، وفعلاً قُدّم استقالته من رئاسة الحكومة للحوثيين لا للرئيس، وكأن سلطة الأمر الواقع أصبحت في مران لا في صنعاء.
هادي – الذي بدا عاجزًا عن حماية نفسه – شكّل حكومة جديدة برئاسة خالد بحاح، وعيّن اللواء محمود الصبيحي وزيرًا للدفاع. لكن ذلك لم يُنهِ معاناته، فقد استمرت الضغوط عليه:"مدير مكتبه أحمد عوض بن مبارك اختُطف، منزله حُوصِر، حراسته القليلة تقاتل دون أي اسناد دفاعا عن المنزل فقط، اما صنعاء فقد أصبح عاصمة رقم 4 تخضع للنفوذ الإيراني.
وفي فبراير 2015، وبعد وساطة إقليمية، نجح هادي في الهروب إلى عدن. هناك، أعلن سحب استقالته، وبدأت ترتسم ملامح صراع مفتوح، داخليًا وإقليميًا.
في صنعاء، كان الحوثيون والإخوان والمؤتمر يجتمعون في فندق موفمبيك لترتيب ما أسموه "المرحلة الانتقالية"، بينما كانت قوات الحوثي تندفع نحو الحديدة، وتعز، والبيضاء، الدولة تهاوت، والفراغ ابتلع كل شيء.
عدن والرهان الأخير... من النجاة إلى العاصفة
هرب عبدربه منصور هادي من صنعاء كما يهرب طائر من قفص مغلق ببطء.لم يهرب رئيسًا لدولة، بل ناجيًا من دولة لم تعد له، ولا أحد يدين له بالولاء فيها… سوى قلة ما زالت تؤمن بأن الوقت لم يفت تمامًا.
وصل هادي إلى عدن، العاصمة التي لطالما نُظر إليها كملاذ آمن، لكنها هذه المرة ستصبح خط الدفاع الأخير عن ما تبقى من الجمهورية.
أعلن سحب استقالته، قال إنها كانت "تحت الضغط". لكن كان واضحًا أن الرئيس لم يأتِ ليحكم من عدن… بل ليحاول النجاة فيها.
بدأت الملامح تتشكل
الحوثيون يزحفون جنوبًا بسرعة انتحارية.
الوحدات العسكرية في الجنوب تتساقط من الداخل.
القوى السياسية متخبطة.
والمجتمع الدولي لا يرى في الأمر سوى "نزاع داخلي".
وفي خضم كل هذا، كاد أن يُقتل هادي في عدن.
قصف طيران حربي يمني تابع لسلاح الجو – الذي صار تحت سلطة الحوثيين – قصر المعاشيق، حيث يقيم الرئيس. الطيار، وفقًا لمصادر لاحقة، كان أحد المنضوين حديثًا تحت شعار "أنصار الله". الهدف كان واضحًا: قطع رأس الشرعية قبل أن تستنجد بأحد.
لكن الضربة أخطأت الرأس... فدخل الخليج.
أمام تهديد مباشر بسقوط باب المندب في يد الحوثيين، خاطب هادي الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي، طالبًا التدخل وفقًا للمادة الخاصة بـ"قوات درع الجزيرة".
لكنه لم يحصل على درع الخليج، بل على عاصفة الحزم.
وفي فجر 26 مارس 2015م، بدأت الضربات الجوية تدك قواعد الحوثيين، ومخازن الأسلحة، ومراكز السيطرة. أول دقيقة من القصف كانت كافية لتدمير أبرز القواعد العسكرية في قاعدة الديلمي الجوية شمال صنعاء.
لكن المفاجأة لم تكن في الضربات الجوية...
المفاجأة كانت في عدن.
في تلك المدينة التي ظنها الجميع مجرد ملاذ للرئيس، بدأت ملامح مقاومة شعبية تتكون، تنمو بسرعة، وتزداد انضباطًا وشراسة.
في الأزقة، في الجبال، على أسطح المنازل، تشكلت نواة مقاومة جنوبية رفضت سقوط مدينتها كما سقطت صنعاء… تعلّمت من التجربة، وقالت بوضوح: "لن نستسلم".
في المقابل، الإخوان – الذين كانوا حتى يوم العاصفة صامتين – بدأوا نشاطهم الإعلامي من الرياض، لا من الميدان. في اليوم الحادي عشر من الضربات الجوية، أصدروا بيان تأييد متأخرًا… بعد أن حزموا حقائبهم، وتوزعوا بين الفنادق وقنوات البث المباشر.
في الجنوب لم تكن مقاومة حزب، ولا جيشًا نظاميًا، بل حالة وعي جمعي في تشكل في عدن العاصمة، رفضت أن تُعاد دورة الاحتلال – لكن هذه المرة، بزيّ الحوثي والمظلومية الخادعة.
قالها القائد هاني بن بريك بوضوح: "الجنوب تحرر لأننا اشترطنا ألا يكون في صفوفنا أي إخواني... ومن هنا بدأ الفارق."
بينما كانت عدن تتحرر شبرًا بشبر، كانت جبهات مأرب وتعز تُراوح في مكانها، أو تنهار كلما تأخرت المخصصات والدعم.
الابتزاز كان واضحًا: إن لم تدفع الرياض، تُسلَّم مديرية أو مركز محافظة، وإن دفعت، تُرفع أعلام النصر "بالكاميرا فقط".
جبهات تُدار كصفقات... بينما كانت المقاومة الجنوبية تُدار كمعركة وجود.
وهكذا... تحولت عدن من نقطة هروب إلى نقطة ارتكاز إقليمي، وأثبتت أن الجنوب ليس خاصرة رخوة، بل قلب عنيد في معادلة إقليمية بدأت تتغير ملامحها منذ اللحظة الأولى لانطلاق العاصفة.
المقاومة الجنوبية.. من ملاذ أخير إلى مشروع تحرري
حين بدأت المدافع تعلو في عدن، لم تكن المعادلة كما في صنعاء.
هنا، لم يكن هناك فرقة أولى مدرع… ولا لواء 310… ولا وزراء يتسللون من النوافذ إلى صفوف الحوثي.
كان في عدن ناسٌ عرفوا معنى السقوط. جربوه مرارًا منذ 1994، وشاهدوا بأعينهم كيف يُختزل الجنوب في غنيمة بيد المنتصر، وكيف تتحول مدنهم إلى "ملحق سياسي"، وخيراتهم إلى "غنائم حرب".
لكنهم هذه المرة، قرروا ألا يسقطوا.
قررت عدن، لحج، الضالع، أبين، شبوة… أن تنسى انقسامات الماضي، وتختصر كل التفاصيل تحت شعار واحد: "لن تُحتل عدن مرة أخرى، لا باسم الوحدة، ولا باسم الدين، ولا حتى باسم الجمهورية اليمنية.
لم تكن المقاومة الجنوبية تنظيمًا سياسيًا، بل حالة وعي... استندت إلى الإرث الوطني للحركة الوطنية الجنوبية، والوجع المشترك، والرفض القاطع لأي سلطة لا تحمل تفويض الأرض والناس.
لم تنتظر هذه المقاومة أوامر الرئيس، ولا أوامر التحالف، بل صنعت تحالفها مع الأرض.
في عدن، كان القائد الشاب علي الصمدي يشعل فتيل المقاومة، واضعًا خارطة طريق لمعركة التحرير عبر بيانه الشهير الذي دوّى كنداء استنهاض. تشكلت وحدات الدفاع الذاتي في كريتر وخور مكسر والبريقة، وتحرك قادة المقاومة، وهم كُثُر، كالصقور، ينسجون خطوط الدفاع في وجه الزحف القادم.
النساء الجنوبيات كنّ في قلب المعركة، يرفدن الجبهات بما هو أغلى من الزاد: فلذات الأكباد والغذاء، وتحولت أخريات إلى طبيبات يعالجن الجرحى في ظروف تكاد تكون مستحيلة.
في الضالع، سقطت أولى طلائع الحوثيين على تخوم حجر والأزارق، فيما كان الشيخ سالم علي البركاني يقود مجموعات من أبناء قبيلته في مكيراس، محاولًا صد التقدم الحوثي عبر عقبة ثرة. أقسم أن الغزاة لن يمروا إلا على جثته، لكن الكفة مالت مؤقتًا لصالح المهاجمين بكثافة عدّتهم وعديدهم.
أما في لحج، فكان المشهد أقرب إلى انتفاضة شعبية مسلحة، حيث تحوّل جسر الحسيني إلى خط نار أوقف زحف الغزاة. هناك سقطت طلائع الحوثيين، ودُمّرت آلياتهم، في مشهد نسف كل الصور النمطية، هذه المرة، أضاء اللحجيون السماء بنيران دبابات العدو المحترقة في العند والحسيني.
القبائل، الشيوخ، الشباب، المتقاعدون، العسكريون، المدنيون... الكل كان في الميدان.
لم يكن بين هؤلاء أي من رموز "الثورة السلمية" 2011.
لم يكن بينهم من يفاوض الحوثي في موفمبيك أو يوزع ابتساماته في برامج الجزيرة.
هؤلاء، كانوا ناسًا لا يفاوضون على الكرامة.
حين وصل الدعم الجوي من التحالف، لم يكن ليصنع فرقًا حقيقيًا لولا أن وجد من يقاتل على الأرض.
المقاومة الجنوبية هي من رسمت خطوط التماس، ومن ثبّتت الجبهات.
في الوقت الذي كانت فيه قوات "الجيش الوطني" تبحث عن تمويل وأوامر، كانت المقاومة تخلق جبهاتها دون رواتب، دون موازنات، ودون "ألوية وهمية".
فهم التحالف سريعًا أن رهانه في الجنوب مختلف.
هنا، لا وجود لإخوان يساومون، ولا زعماء قبائل يغيرون ولاءهم كل خميس.
هنا، شعب يقاتل لأنه لا يملك رفاهية الخسارة.
لذلك تحوّل الدعم من العواصم إلى الميدان.
ومع تحرير عدن في يوليو 2015، لم تعد المقاومة الجنوبية مجرد "ردة فعل" على اجتياح، بل تحولت إلى مشروع سياسي وميداني ومؤسسي.
بُنيت نواة الحزام الأمني، وتم تشكيل ألوية العمالقة، والنخبة، والدعم والإسناد، على أسس جديدة، بعيدًا عن الانتماء الحزبي أو التوظيف السياسي.
في تعز، ظل الإصلاح يوزع البيانات أكثر من الرصاص.
وفي مأرب، كانت الجبهات تتحرك وفق مواعيد التحويلات المالية.
في الحزم، كانت المراكز تُسلَّم دون طلقة، وفي الجوف كانت السيطرة لا تدوم أكثر من 3 أيام بعد كل دعم سعودي.
وحدها جبهات الجنوب، كانت صامدة، ثابتة، وتُراكم الإنجاز.
يقول أحد الساسة السعوديين: "لولا أن الجنوب صمد، لسقطت العواصم الخليجية واحدة تلو الأخرى… الأمر لم يكن حرب حدود، بل حرب بقاء."
وهكذا، من رماد المدن، ومن تحت الركام، خرج الجنوب بمقاومته، ليقول: "نحن لسنا مجرد جمهور غاضب، نحن مشروع تحرر، لا صفقة فيه ولا مناورة".
من الذي أسقط اليمن؟
وهنا لا نبحث عن متهم وحيد، بل عن حقيقة مركبة، مرّة، لكنها ضرورية لفهم ما جرى وما قد يجري.
الحقيقة الصادمة
لم يُسقط اليمن رجل، ولا حزب، ولا جماعة وحدها…
بل سقط اليمن حين قررت كل قوة أن تلعب لمصالحها فقط،
أن تتحالف مع خصم الأمس ضد خصم اليوم،
أن تترك الدولة، لتدير الميليشيا،
أن تختار الصراع، بدل التوافق،
وأن تضحّي باليمن… من أجل الكرسي.
وماذا عن الجنوب؟
الجنوب لم يسقط، لأنه رفض أن ينهار.
صمد، وقاوم، وواجه، وبنى مشروعًا تحرريًا في زمن الفوضى،
واستعاد روحه وسط الركام.
واليوم… الجنوب ليس مجرد جغرافيا محررة،
بل ذاكرة وطنية حيّة، رفضت أن تكون ضحية في قائمة الجناة.
رسالة إلى قادة الإخوان
لا تبحثوا عن "من أسقط اليمن" في نشرات الأخبار،
ابحثوا عنه في مرايا النخبة،
في سذاجة الثورة،
في جشع السياسة،
وفي كل تلك اللحظات التي كان يمكن فيها إنقاذ البلاد…
لكنهم اختاروا إسقاطها،
ثم اتهموا بعضهم البعض بالذنب.
اليمن لم يسقط في يوم واحد…
بل سقط بكل يوم تأخر فيه الصدق، وسبق فيه الطمع.