بين موازين التاريخ وحقائق الجغرافيا، وفي ظل تشابك المعادلات المحلية والإقليمية والدولية، يُعاد طرح القضية الجنوبية من جديد ليس كمجرد ملف سياسي، بل كقضية شعب يطالب باستعادة دولته التي كانت قائمة قبل الوحدة اليمنية عام 1990، في سياق تحولات كبيرة تشهدها المنطقة. وفي قلب هذه المطالب، يتموضع المجلس الانتقالي الجنوبي باعتباره الحامل السياسي الأبرز للمشروع الجنوبي.
خلفية تاريخية: حين تحوّلت الشراكة إلى إلحاق
جاءت وحدة 1990 بين شطري اليمن كاتفاق طموح لبناء دولة موحدة، لكنها تحولت سريعًا – بحسب كثير من المحللين الجنوبيين – إلى وسيلة لفرض واقع سياسي واقتصادي جديد، أقصى الجنوب وحوّله إلى ساحة نفوذ واستحواذ لصالح القوى المسيطرة من صنعاء، وقد بلغ هذا المسار ذروته في حرب 1994، التي اعتُبرت نقطة التحول الحاسمة في إنهاء أي مضمون حقيقي للوحدة، وتحويلها إلى سلطة أمر واقع.
المجلس الانتقالي الجنوبي: تمثيل شعبي لا فردي
لم يكن تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017 نتاج رغبة نخبوية أو توجه حزبي ضيق، بل جاء كمحصلة طبيعية لنضالات شعب الجنوب منذ 1994، وككيان سياسي نال شرعية شعبية عبر التفويض الجماهيري في مليونيات عدن وسواها.. وقد تميز المجلس بقدرته على استيعاب طيف واسع من المكونات الجنوبية، وتحويلها إلى إطار سياسي منظم، يجمع بين التمثيل السياسي، والقدرة العسكرية، والرؤية الواضحة لمستقبل الجنوب.
المعطى الأمني والعسكري: الجنوب حائط الصد الأول
في الوقت الذي فشلت فيه كثير من جبهات الشمال في مواجهة الحوثيين، برزت القوات الجنوبية – المنضوية تحت مظلة المجلس الانتقالي – كقوة فاعلة على الأرض، ساهمت في استعادة الأمن، ومحاربة التنظيمات المتطرفة، وتأمين الممرات البحرية، هذا الدور لم يكن دفاعيًا فحسب، بل شكّل جزءًا من الأمن الإقليمي، وهو ما جعل من الجنوب شريكًا ميدانيًا أساسيًا في الحرب على الإرهاب ومواجهة المشروع الإيراني.
إقليمياً: تقاطع مصالح لا تبعية
علاقة الجنوب مع قوى إقليمية فاعلة مثل الإمارات، ليست تبعية كما يدعي خصوم المشروع الجنوبي، بل تقاطع مصالح قائم على محاربة الإرهاب، وحماية الأمن البحري، وتأمين منطقة ذات أهمية استراتيجية للعالم أجمع.. وقد أثبتت الوقائع أن الجنوب هو الطرف الأكثر التزامًا باستقرار المنطقة، والأكثر قدرة على تحمل كلفة المواجهة، في مقابل فشل مكونات حكومية أخرى انزلقت في مساومات سياسية أو اختراقات أمنية.
القانون الدولي: أرضية مشروعة للمطالب الجنوبية
من الناحية القانونية، لا يفتقر المجلس الانتقالي إلى السند الحقوقي، فحق تقرير المصير مكفول في المواثيق الدولية، وتاريخ الجنوب قبل 1990 يعزز هذا المسار، كونه كان دولة قائمة ومعترف بها دوليًا، لا جماعة منشقة أو أقلية طائفية، كما أن انتفاء الشراكة الحقيقية في الوحدة، وتحولها إلى هيمنة بالقوة، يُسقط أي شرعية قانونية عنها، وفقًا للمعايير الدولية التي تجرّم ضمّ الأراضي بالقوة، وتُبطل الاتفاقات المفروضة بالإكراه أو التي تُنتج تهميشًا واستلابًا.
النموذج الكردي.. لماذا لا يُقاس عليه الجنوبيون؟
يتساءل كثيرون: لماذا حظي الأكراد في العراق بدعم دولي وإقليم شبه مستقل، رغم أنهم لم يكونوا دولة قائمة قبلًا؟ بينما يُحرم الجنوبيون من مجرد طرح استعادة دولتهم؟ المفارقة تكمن في اختلاف المعايير، فالدولة الجنوبية كانت قائمة، وكانت عضوًا في الأمم المتحدة والجامعة العربية، ولديها مؤسسات دبلوماسية وأمنية. وهي اليوم تعود للمطالبة بحق أصيل، لا لاختراع واقع جديد.
الشرعية اليمنية.. إلى أين؟
واقع اليوم يشير إلى تآكل كبير في شرعية المؤسسات اليمنية المعترف بها دوليًا، ليس فقط بسبب فشلها في تثبيت الأمن أو تحسين الوضع الاقتصادي، بل نتيجة انقساماتها العميقة واختراقها من قوى معادية لمشروع الدولة الاتحادية، هذا التراجع يُبرز المجلس الانتقالي كطرف منظم، يتمتع ببنية أمنية وإدارية، ويقدّم مشروعًا بديلًا يحظى بتأييد شعبي وميداني.
استقرار الجنوب.. ضمان إقليمي ودولي
في ظل التهديدات المتعددة التي تواجه البحر العربي وخليج عدن، وفي ظل اضطراب المشهد اليمني شمالًا، يقدّم الجنوب اليوم فرصة تاريخية لإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية والدولية، عبر دعم كيان سياسي مستقر، يمتلك مؤسسات أمنية فاعلة، وقادر على تأمين حدوده، والمشاركة في حماية التجارة الدولية.. دعم الجنوب لا يُعد تهديدًا لوحدة اليمن فقط، بل مدخلًا لتحقيق استقرار حقيقي في واحدة من أكثر المناطق هشاشة على خريطة العالم.
خلاصة المشهد: شرعية الواقع تنتصر
المجلس الانتقالي الجنوبي لا يقدّم مشروعًا انفصاليًا كما يصفه خصومه، بل يطرح خيارًا سياسيًا واقعيًا مبنيًا على الشرعية التاريخية والقانونية والشعبية، ويعكس إرادة الجنوب لا نزعة سلطوية، وهو اليوم، بحضوره الميداني، وتحالفاته الإقليمية، ووثائقه السياسية، يعيد تشكيل خريطة اليمن، ويضع المجتمع الدولي أمام استحقاق أخلاقي وسياسي، يفرض دعم تطلعات شعب الجنوب نحو الاستقلال، لا دفنها تحت ركام شعارات ثبت فشلها.