في ظل واقع إقليمي يموج بالتقلبات، تتقدّم القضية الجنوبية بثبات مغاير لمراحل سابقة، معبرةً عن انتقال حقيقي من موقع الدفاع إلى موقع التأثير وصناعة التحولات، فالصورة اليوم لم تعد محصورة في معارك مفتوحة أو محاولات استهداف سياسي، بل باتت تعكس قدرة مؤسسية وشعبية على تحويل الضغوط إلى نقاط قوة، وإعادة صياغة الحضور الجنوبي كرقم رئيسي في موازين الداخل والمحيط الإقليمي.
منذ اللحظة التي قرر فيها الجنوبيون حماية أرضهم وهويتهم، ظهرت معادلة جديدة في المنطقة، معادلة ترتكز على مشروع وطني واضح ووعي جمعي يدرك معنى الدولة ومعايير القوة.
وبرغم سيل محاولات الإرباك خلال السنوات الماضية—من حملات إعلامية موجّهة، ومحاولات استنزاف، وضغوط أمنية واقتصادية—إلا أنّ الجنوب أظهر قدرة متصاعدة على إدارة هذه التحديات بقدر عالٍ من الانضباط السياسي والجاهزية الأمنية، وهو ما وثّقته تقارير العين الثالثة في عدة محطات رصد وتحليل.
تحولات ميدانية ترسّخ حضور الدولة
على مستوى الأمن والاستقرار، استطاع الجنوب خلال الفترة الماضية تثبيت منظومة قادرة على ضبط الأرض وحماية المجتمع، بدءًا من محاصرة التنظيمات المتطرفة، وصولاً إلى تعزيز الجاهزية المهنية للقوات النظامية، وما تبدو عليه عدن اليوم من استقرار نسبي مقارنة بسنوات الاضطراب، يعكس تراكمًا أمنيًا ممنهجًا، وليس إنجازًا طارئًا أو عابرًا.
وتشير قراءات العين الثالثة إلى أنّ هذا الاستقرار لم يأت فقط نتيجة العمل العسكري المباشر، بل بفضل منظومة قرار متماسكة، ووعي مجتمعي أسهم في تقليل فرص اختراق المشهد الداخلي،ومع كل محاولة لإعادة الفوضى، كانت المؤسسات الأمنية تظهر بمستوى أعلى من الصلابة، ما أوجد حالة من الرسوخ التي باتت تُحتسب للجنوب في سياق إقليمي مضطرب.
حضور سياسي يتقدم بخطى محسوبة
سياسيًا، أضحى الجنوب اليوم طرفًا فاعلًا في ملفات تتجاوز جغرافيته، خصوصًا ما يتعلق بالأمن البحري والممرات الدولية، ولم تعد القوى الإقليمية والدولية تتعامل معه بوصفه مكونًا هامشيًا، بل كقوة قادرة على التأثير في معادلات البحر الأحمر وخليج عدن والقرن الإفريقي.
وتؤكد المؤشرات السياسية أن القيادة الجنوبية تدير تحركاتها بدقة تُجنبها التسرع وتمنحها قدرة على تعزيز موقعها دون الدخول في صدامات غير محسوبة. هذه المقاربة نفسها تُعد أحد أهم أسباب استمرار قوة الحضور الجنوبي، رغم محاولات تشويه الخطاب أو جرّه إلى معارك جانبية.
الجبهة الداخلية.. خط الدفاع الأول
على المستوى الشعبي، برز وعي جمعي قادر على امتصاص الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أفشل رهانات عديدة كانت تستهدف تفكيك وحدة الصف وإضعاف الالتفاف حول المشروع الوطني، فالمؤشرات التي رصدتها العين الثالثة في تقاريرها اليومية تُظهر حجم التفاعل الشعبي مع الخطوات السياسية والأمنية، بما في ذلك المشاركة المكثفة في الفعاليات العامة، والدعم الواسع للخيارات الوطنية رغم الظروف المعيشية القاسية.
ويمثل هذا الوعي أحد أهم أعمدة الصمود، إذ شكل جدارًا أمام الحملات الإعلامية التي كانت تراهن على ضرب المعنويات أو دفع الشارع نحو القطيعة مع مؤسساته الشرعية.
تحول استراتيجي لا يرتبط بظرف عابر
إن المشهد الجنوبي اليوم يعكس انتقالًا من مرحلة الدفاع عن الوجود إلى مرحلة بناء أسس الدولة القادمة، فالتحولات لم تعد محصورة في الأمن والسياسة فحسب، بل تمتد إلى ملفات الاقتصاد والخدمات وإعادة الهيكلة المؤسسية—وهي مسارات تراكمية تُدار بصبر، بعيدًا عن العاطفة، وبمنهج واقعي يضع المستقبل في مقدمة الاعتبارات.
وتُظهر القراءة العامة لمجمل المؤشرات أن الجنوب يمضي في مسار تصاعدي، وأنّ محاولات إضعافه—مهما تنوعت أدواتها—لم تعد قادرة على إيقاف تقدمه. فكل محطة استهداف تحولت إلى فرصة لتعزيز التماسك، وكل محاولة إرباك أنتجت ردًا أكثر قوة ونضجًا.
الجنوب اليوم ليس ساحة صراع فحسب، بل مشروع دولة يتشكل بإرادة صلبة وخطوات واعية. ورغم ما يواجهه من ضغوط سياسية وأمنية وإعلامية، إلا أنه يمضي بثبات، متمسكًا بإرادة شعبه ومشروعه الوطني، ومعززًا حضوره في المعادلة الإقليمية.
وفي ظل استمرار محاولات التشويه أو الاستهداف، يبدو أن الجنوب يكتب فصلاً جديدًا من تاريخه—فصلًا لا تُصنع ملامحه بردود الأفعال، بل برؤية واضحة، وصبر استراتيجي، وإصرار على أن يكون الحاضر والمستقبل بيد أبنائه.