آخر تحديث :الأحد - 27 يوليو 2025 - 08:30 ص

اخبار العالم

نهاية "الوصاية الأمنية" الفرنسية على الساحل جرعة دعم للجهاديين

السبت - 26 يوليو 2025 - 09:42 م بتوقيت عدن

العين الثالثة/ متابعات

يمثل تصريح وزير الدولة الفرنسي المكلف بالفرنكوفونية والشراكات الدولية ثاني محمد صويلحي أمس الجمعة، بأن انعدام الأمن في منطقة الساحل لم يعد يخص فرنسا، إعلاناً غير مسبوق عن نهاية مرحلة طويلة من النفوذ الأمني والعسكري الفرنسي في غرب أفريقيا.

ويأتي هذا الموقف الفرنسي بعد انسحاب باريس من آخر قاعدة عسكرية كبيرة لها في المنطقة، بما يشكل نقطة تحوّل واضحة في السياسة الفرنسية تجاه مستعمراتها السابقة.

وباتت فرنسا، التي لطالما تباهت بدورها كـ”ضامن أمني” في الساحل، اليوم تتنصل من هذا الدور وتلوّح بالقطْع مع مرحلة كانت فيها صاحبة اليد الطولى في رسم توازنات القوة داخل دول هذه المنطقة.

ولا يأتي هذا الانسحاب من فراغ؛ فخلال السنوات الثلاث الماضية توالت الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأتت بأنظمة عسكرية رفعت شعارات معاداة الاستعمار الجديد وطالبت برحيل القوات الفرنسية.

ومع صعود هذه القوى اضطرّت باريس إلى الخروج، ليس فقط بشكل ميداني، بل أيضاً من موقع الشريك الموثوق أمنيا. لكن في المقابل لا يعني تخلّي فرنسا عن الساحة تراجع التهديدات، بل على العكس تشير المعطيات إلى أن الجماعات الجهادية تجد في هذا الفراغ فرصة سانحة لتوسيع نفوذها، مستفيدة من هشاشة الجيوش الوطنية وتراجع الدعم الاستخباراتي واللوجستي الغربي.

وعلى مدى عقود شكل الوجود العسكري الفرنسي مظلة للأمن النسبي في المنطقة، رغم الانتقادات التي طالته. فقد تصدّت القوات الفرنسية لهجمات المتشددين، ووفرت دعماً حاسماً في أوقات الأزمات السياسية، بل وشاركت في إنقاذ رؤساء من انقلابات مسلحة أو اضطرابات أمنية.

♦ دول الساحل تشهد إعادة رسم لمعادلة القوة، في غياب الراعي القديم، ودون توفر راع جديد قادر على ملء الفراغ

ولم يكن هذا الدور خالياً من المصالح، لكنه شكل عامل ردع للجماعات المتطرفة. واليوم، مع انسحاب فرنسا، تغيب تلك القدرة على التدخل السريع، وتفقد الحكومات المحلية ظهيراً كان يعوّض ضعف بنيتها الأمنية.

وقد يُقرأ تصريح صويلحي بأن الأمر “لم يعد يخصنا” كتبرير دبلوماسي لفشل السياسات السابقة، لكنه في الواقع يعكس وعيا متأخرا بأن النفوذ الفرنسي تآكل تحت وطأة المتغيرات الجيوسياسية وصعود قوى جديدة، بعضها حليف لروسيا أو خصم للغرب.

والانسحاب لا يعني بالضرورة انسحاب التبعات؛ فالمنطقة لا تزال مرتبطة بأمن أوروبا، وأي تصعيد في النشاط الجهادي قد يتجاوز الحدود ليهدد الشمال الأفريقي وحتى السواحل الأوروبية.

ويقول مراقبون إن الفراغ الناتج عن خروج فرنسا لا يُملأ بسهولة. فالمبادرات الأمنية المحلية، مثل تحالف الساحل بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تفتقر إلى القدرة المالية والخبرة العملياتية، فيما تبقى البدائل المطروحة، كالشراكة مع روسيا أو شركات أمنية خاصة مثل “فاغنر”، مثار جدل بسبب سجلها في انتهاكات حقوق الإنسان وضعف فاعليتها في احتواء التمردات.

والنتيجة أن الجماعات الجهادية باتت تتمدد في مساحة أوسع، وتضرب بثقة أكبر، دون أن تجد مقاومة حقيقية. وفي هذا السياق يبدو أن انسحاب فرنسا، ولو كان مُبررا داخليا بضرورة إعادة النظر في السياسة الخارجية، يمثل من الناحية العملية دفعة معنوية وإستراتيجية للتنظيمات المسلحة، التي طالما وصفت الوجود الفرنسي بالاحتلال، وتروج الآن لرحيله على أنه انتصار.

وما تشهده دول الساحل اليوم هو إعادة رسم لمعادلة القوة، في غياب الراعي القديم، ودون توفر راعٍ جديد قادر على ملء الفراغ. وبينما تسعى باريس للحفاظ على علاقات “غير عسكرية” مع من يرغب من هذه الدول، فإن الواقع الميداني يتغير بسرعة لصالح الفوضى، وليس لصالح الاستقرار.

ولا يعيد الانسحاب فقط تعريف دور فرنسا في أفريقيا، بل يفتح المجال أمام تصاعد التهديدات الأمنية، وعودة مشاهد الرعب والذعر التي ظنّ البعض أن الوجود العسكري الأجنبي نجح في إخمادها، ولو مؤقتًا.