آخر تحديث :الأربعاء - 20 أغسطس 2025 - 03:52 م

أمطار الفضيحة بجلاجل

الأربعاء - 20 أغسطس 2025 - الساعة 02:05 م

علي محمد سيقلي
الكاتب: علي محمد سيقلي - ارشيف الكاتب



اليوم نزل المطر، والناس كالعادة فرحوا وقالوا: "اللهم اجعلها سقيا خير".

لكن الخير عندنا يشبه صلاة الاستسقاء ويختفي إيماننا أول ما يغسل الماء عيوبنا.

المطر نزل، والسماء أعطتنا غسيل مجاني، لكن بدلا من أن تغسل قلوبنا، غسلت واجهات منازلنا، كشفت "سقف الصفيح" المخفي تحت الدهان، وفضحت "البيوت العملاقة" المشيدة في بطون السيول.

يا سبحان الله، المطر لا يعرف سياسة ولا حزب، المطر ما عنده واسطة ولا يفرق بين وزير ومواطن شريف.

نزل على الجميع بالعدل. لكن حين وصل إلى الشوارع، تذكر أنه في بلد البنية التحتية فيه تبنى بميزانية "كيسين أسمنت وربع طن حديد". فقرر أن يتحول إلى سيول جارفة، تسوق معها كل شيء، القاذورات، مخلفات البناء، وحتى بعض البشر الذين اكتشفوا أن بيوتهم بنيت في "الطريق الرسمي للسيول".

السيول قالت كلمتها:

ـ أنتم بنيتم عشوائيا؟ إذن عيشوا عشوائيا.

ـ أنتم صمتم عن الفساد؟ إذن اسبحوا في برك الفساد.

ـ أنتم تركتم السماسرة يبيعون أراضي الأودية؟ إذن تفضلوا الآن استمتعوا بـ"شقق سكنية مؤقتة" وسط زفت الطين.

أما الدولة، فقد حضرت كعادتها متأخرة، وبكامل زينتها الرسمية، ومعها وفد من "المواسون المحترفون"، أول ما تفعل هو التصوير، ثاني ما تفعل إصدار بيان، وثالث ما تفعل، لا شيء. وكأن مهمتها تنحصر في قول: "نحن هنا، نرى مأساتكم، ونشعر بكم". وكأن الشعور يعوض بيتا غرق، أو جدارا انهار، أو سيارة جرفتها السيول.



الناس من جهتهم، تنقسم إلى قسمين:

قسم يصور بكاميرا الهاتف وهو واقف على عتبة بيته الغارق، ويكتب على الفيسبوك: "قدر الله وما شاء فعل".

وقسم آخر يلوم ربنا ويقول: "ليش يا رب تنزل مطر في هذا الوقت؟!".

وكأن رب العالمين عليه أن يستشير وزارة الأشغال قبل أن تمطر السماء.

أجمل مشهد اليوم: حين تحولت الشوارع إلى مسابح، ورأيت الأطفال يسبحون في مياه الأمطار التي تحمل معها كل ما تكره أن تراه، أكياس القمامة، عظام الدجاج، وذكريات فسادنا المدفون.

هؤلاء الأطفال ضحكوا واعتبروها لعبة، بينما نحن الكبار اعتبرناها كارثة، ربما الأطفال هم أصدق منا، أخذوا الحياة بوجهها الحقيقي، بينما نحن نكابر ونلبس القبح مساحيق "الخير والبركة".

المضحك أن المطر كشف أسرار الناس أكثر مما كشف أسرار الأرض. رأيت جارا كنت أحسده على سيارته الحديثة، اكتشفت أنها "غير برمائية" وأنها توقفت في نصف الشارع كسلحفاة مقلوبة. ورأيت آخر كنت أظنه نظيفا، فإذا ببيته يخرج منه سيل من الأوساخ كأنه مصنع نفايات.

المطر كشف الوجوه، من نظيف ومن يعيش على الوحل.

أما البنية التحتية، فهذه نكتة قائمة بذاتها، المطر لم يكشف عيوبها، بل كشف أنها لم تبْن أصلا، كل شارع صار نهرا، كل حفرة صارت بحيرة، كل شارع صار مغسلة سيارات طبيعية.

وهنا سألت نفسي، هل نحن في بلد يبني أم في بلد يتفنن بالترقيع؟

المأساة ليست في المطر، بل في أننا نعيش كل كم عام نفس السيناريو، المطر ينزل، الدولة تغيب، الناس يصرخون، ثم نعود نعيش وكأن شيئًا لم يكن، إلى أن تأتي الأمطار القادمة وتعيد تشغيل "فيلم الكارثة" من جديد.

المطر اليوم لم يكن مطر خير ولا مطر شر، كان مطر صدق، قال لنا الحقيقة في وجوهنا، أنتم غارقون في الفساد قبل أن تغرقوا في المياه.

ليت المطر يغسل القلوب قبل الشوارع، ويجرف العقول الفاسدة قبل الزبالة، ويكشف عورات الفساد قبل أن يكشف سقوف الصفيح، لكن للأسف، المطر نزل، رحل، وترك لنا صورا للذكرى وفيديوهات للضحك على المأساة، إلى أن يكتب المطر القادم مقالا آخر.




شاهد أيضًا

غضب شعبي في عدن: الأهالي يطالبون بوقف إضرابات النقابات وإنقا ...

الأربعاء/20/أغسطس/2025 - 03:00 م

تتسع في العاصمة عدن دائرة الاستياء الشعبي جراء استمرار إضرابات النقابات التعليمية التي تسببت في تعطيل الدراسة وتهديد مستقبل آلاف الطلاب. وأكد مواطنون


كشف شبكة تجسس نسائية تعمل (هذا الشيء) بلا غطاء رسمي وبتمويل ...

الأربعاء/20/أغسطس/2025 - 02:40 م

تباشر الأجهزة الأمنية في محافظة أبين التحقيق مع شبكة نسائية مكوّنة من أربع فتيات، بتهمة جمع بيانات ومعلومات حساسة عن السكان دون أي صفة رسمية. وقالت مص


241 مليون ريال تحت المطر.. مشروع في عدن يتحول من إنجاز مُعلن ...

الأربعاء/20/أغسطس/2025 - 02:10 م

لم تصمد فرحة افتتاح مشروع صيانة وتأهيل شارع الحريش – تقاطع كورنيش المرشدي – طويلًا؛ فالأمطار الغزيرة التي هطلت على عدن فجّرت عوراته، لتكشف أن المشروع،


الجمعية الوطنية تستعرض التحديات الوطنية وتؤكد على أولوية الا ...

الأربعاء/20/أغسطس/2025 - 12:32 م

عقدت الهيئة الإدارية للجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي الجنوبي، اليوم الأربعاء، اجتماعها الدوري برئاسة نائب رئيس الجمعية عصام عبده علي، لمناقشة أبرز ال