آخر تحديث :السبت - 16 أغسطس 2025 - 01:58 ص

من عدن إلى تل أبيب.. كيف تهاوى جدار النفوذ الإيراني

السبت - 16 أغسطس 2025 - الساعة 12:14 ص

هاني سالم مسهور
الكاتب: هاني سالم مسهور - ارشيف الكاتب




​لم تكن إيران تتصور يومًا أنها ستستيقظ على واقع ترى فيه عمقها العسكري مكشوفًا، وقياداتها غير محصنة، وأذرعها الإقليمية تتراجع من دون أن تُطلق رصاصة واحدة دفاعًا عن نفوذها، فمنذ 1979، والنظام الذي بناه الخميني قام على فرضية التمدد بلا رادع بعقيدة (تصدير الثورة)، والسيطرة على العواصم العربية كجزء من مشروع “الهلال الإيراني”، وكانت دمشق، بغداد، بيروت، وصنعاء تُذكر في خطابها الرسمي كأوسمة على صدر الثورة، حتى بدا أن الخريطة العربية خاضعة ليد الحرس الثوري أكثر من أيّ وقت مضى، لكن خلال أقل من عقد، انقلب المشهد رأسًا على عقب، وتهاوت هذه الأوسمة واحدًا تلو الآخر، حتى وجدت طهران نفسها أمام ما يشبه وثيقة اعتراف غير معلن بالهزيمة، مغلفة بورق “الواقعية” في هيئة مجلس أعلى للأمن القومي، لا ليقود الحرب بل ليُدير الخروج المنظم منها.

الشرخ الأول في جدار النفوذ الإيراني لم يحدث في تل أبيب أو واشنطن، بل في عدن، صيف 2015، كانت المدينة على وشك أن تتحول إلى قاعدة متقدمة للمشروع الإيراني في الجزيرة العربية، عبر الحوثيين، لكن التدخل العربي بقيادة التحالف، والدور الحاسم للقوات الجنوبية قلب المعادلة، فتحرير عدن لم يكن مجرد انتصار ميداني، بل كان كسرًا لهيبة التمدد الإيراني، فلأول مرة، تُنتزع عاصمة عربية من تحت يد طهران بالقوة المباشرة، وتُفتح نافذة عربية لردع المد الطائفي، من عدن انطلقت ألوية العمالقة على طول الساحل الغربي اليمني تجندل الحوثيين وتقطع أوصال خطوطهم البحرية، في عملية أظهرت أن النفوذ الإيراني قابل للكسر إذا وُجدت الإرادة والأداة.

لكن العرب، برغم هذا النصر، تعاملوا معه كمحطة عابرة، بلا رؤية إستراتيجية لكيفية البناء عليه، لم يستثمروا هذه اللحظة لصياغة سياسة إقليمية تلتقط التراجع الإيراني وتحوّله إلى انحسار شامل، ظلوا متفرجين على مشهد أكبر يتشكل، كما كانوا من قبل متفرجين على تمدد طهران في دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء وهي التي قبل أن تضرب تل أبيب استهدفت العاصمة المقدسة مكة المكرمة والرياض وجدة وأبها، وهكذا تُركت لحظة عدن، التي كان يمكن أن تكون بداية هجوم عربي مضاد، تتلاشى في رمال الحسابات الضيقة.

بعد عدن، جاءت الضربة الثانية، هذه المرة من الولايات المتحدة، وبقرار مباشر من دونالد ترامب في ولايته الأولى، فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم تُستهدف إيران في عمقها بشكل مباشر، حتى في ذروة حرب الناقلات في الثمانينات وقبلها أزمة الرهائن 1979، ورغم الاشتباك مع البحرية الأميركية، ظل العمق الإيراني بمنأى عن الضربات المباشرة، لكن ترامب كسر هذا الحاجز بضربة نوعية ضد منشآت البرنامج النووي، لم تكن مجرد تدمير لمرافق، بل كانت هدمًا لأسطورة “الحصانة الجغرافية” التي طالما تغنى بها النظام، هنا تحققت مقولة وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس “الردع ليس ما تملكه من سلاح، بل ما يعتقد عدوك أنك قادر على استخدامه،” بعد تلك الضربة، لم يعد الخصوم يصدقون أن العمق الإيراني خارج النطاق.

ثم جاء اغتيال قاسم سليماني ليكمل كسر الحاجز النفسي. سليماني لم يكن جنرالًا عاديًا، بل كان تجسيدًا لعقيدة التمدد الإيراني، مهندس الميليشيات من العراق إلى اليمن، وصاحب النفوذ الشخصي على جبهات متفرقة، اغتياله العلني في بغداد، وبقرار مباشر من البيت الأبيض، أطاح بفكرة أن القادة الكبار في طهران محصنون ضد الضربات، استُعيدت هنا مقولة ونستون تشرشل “اقتل القائد، فتربك الجيش، وقد تربك الأمة” وقد ارتبك الجيش الإيراني فعلًا، واهتزت صورة الردع التي بنى عليها النظام شرعيته الإقليمية.

لكن الانكشاف الأكبر جاء في حرب الـ12 يوما مع إسرائيل، طهران دخلت المواجهة بخطاب تحدٍ عنيف، لكنها خرجت بخسائر عسكرية وإستراتيجية فادحة، وبانكشاف عجزها عن فرض أيّ شروط سياسية في وقف إطلاق النار، إسرائيل لم تنتصر بالنار وحدها، بل بالاستخبارات التي مكّنتها من ضرب مواقع دقيقة في العمق الإيراني، بعضها على صلة بالبنية التحتية النووية والعسكرية، في وقت قياسي ودون أن تنجح طهران في إخفاء آثار الضربات أو منع تسريب صورها، هذا المستوى من الاختراق الاستخباراتي فضح هشاشة النظام الأمني الإيراني، وأظهر أن عمق الدولة لم يعد عصيًا على الرؤية أو الضرب.

إلى جانب الاختراق الاستخباراتي، كشفت الحرب ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية، الرادارات لم تكشف شيئاً من الهجمات في الوقت المناسب، وصواريخ الاعتراض أخفقت في حماية مواقع توصف بأنها “حصينة”، وهذا العجز لا يسيء فقط إلى سمعة السلاح الإيراني الذي تسوّقه طهران لحلفائها، بل يضرب أساس عقيدة الردع التي طالما اعتمدت على إقناع العدو بأن الضربة الأولى ستكون مكلفة للغاية.

خسر حزب الله اللبناني، شأنه شأن بقية الأذرع الموالية لإيران، حرب إسناد غزة، إذ لم تتمكن الفصائل الولائية العراقية من إحداث تأثير، ولم تُحدث صواريخ الحوثيين العشوائية أيّ أثر يُذكر. وتهاوت القيادات من حسن نصرالله إلى قادة “حماس” في مواقعهم، فيما فتحت إسرائيل الجبهات على مصراعيها، وكادت تُصفّي المرشد الإيراني علي خامنئي لولا تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

في مواجهة هذا التآكل، لجأت إيران إلى ما وصفته بالواقعية السياسية، فأعادت تشكيل مجلس الأمن القومي وأحيت مجلس الدفاع الوطني المعطل منذ هزيمتها في حربها ضد العراق في 1988، لكنها لم تفعل ذلك لتقود حربًا جديدة، بل لتدير الهزيمة وتحتوي آثارها، فاختيار علي لاريجاني، المعروف ببراغماتيته، بدلاً من القائد العسكري علي أكبر أحمديان، يعكس تحولًا في الأولويات من التصعيد إلى التفاوض، من فتح الجبهات إلى إغلاقها أو تحييدها، هذه ليست قرارات دولة في ذروة قوتها، بل تحركات نظام يحاول تقليص الخسائر.

انعكاسات هذا الانكسار تظهر بوضوح في ملفات النفوذ، في لبنان، لم يعد سلاح حزب الله ورقة ضغط مطلقة كما كان، لأن أيّ مواجهة واسعة قد تدفع إسرائيل لإعادة اختبار هشاشة الدفاعات الإيرانية. في العراق، يبدو أن طهران تقترب من القبول بدمج الفصائل المسلحة في القوات النظامية، تحت ضغط أميركي – عراقي، لتجنب مواجهة استنزافية، وفي دمشق، التي كانت عنوانًا للتمدد الإيراني، جاء سقوط بشار الأسد بعد الحرب الإسرائيلية – الإيرانية ليكشف أن سوريا خرجت عمليًا من يد طهران، كما خرجت عدن قبلها.

المفارقة أن العرب، رغم أنهم المستفيدون الأكبر من هذا الانكفاء الإيراني، ما زالوا بلا رؤية واضحة للتعامل معه، كما غابوا عن لحظة المواجهة مع التمدد الإيراني، غابوا عن لحظة استثماره وهو يتراجع، اليوم، بيروت وبغداد على وشك أن تفتحا أبوابهما للتخلص من القبضة الإيرانية، لكن من دون خطة عربية لدعم هذا التحول وضمان ألا تملأ فراغ النفوذ قوى أخرى معادية للمصالح العربية.

إيران التي أسسها الخميني عام 1979 كانت دولة الثورة الدائمة، توسيع الجبهات، صناعة الأزمات، وابتزاز الخصوم بالميليشيات، إيران ما بعد الـ12 يوما هي دولة التسوية، تُعرّف النصر بأنه تجنب الهزيمة الأكبر، وتضع بقاء النظام فوق أيّ مشروع توسعي، يشبه هذا التحول ما حدث للاتحاد السوفياتي بعد هزيمته في أفغانستان، حين بدأ التراجع عن المغامرات الخارجية رغم بقاء الخطاب الأيديولوجي، قبل أن يصل إلى الانهيار.

لكن الأهم هو أن الحاجز النفسي الذي كُسر ثلاث مرات – استهداف العمق، اغتيال القائد، والهزيمة في مواجهة مباشرة – لا يمكن ترميمه بخطابات حماسية، وكما قال كارل فون كلاوزفيتز “الحرب هي صراع إرادات، ومن يكسر إرادة خصمه أولاً، يربح قبل أن يطلق الرصاصة الأخيرة”، وإيران اليوم تعيش أزمة إرادة، أكثر من كونها أزمة سلاح أو جغرافيا، وما المجلس الأعلى للأمن القومي إلا مسرح لإدارة هذه الأزمة، لا منصة لتجاوزها.

ربما لن يعلن النظام الإيراني أبدًا أن حرب الـ12 يوما كانت هزيمة، تمامًا كما لم يعترف بهزيمة عدن أو اغتيال سليماني، لكن الواقع لا ينتظر الاعتراف، والعرب، إن أرادوا استثمار هذه اللحظة، أمامهم فرصة تاريخية لصياغة سياسة تملأ الفراغ قبل أن يملأه الآخرون، وإن فوّتوا هذه الفرصة كما فوتوا لحظة عدن، فلن تكون هزيمة إيران إلا مقدمة لمعادلة جديدة، قد لا يكون العرب فيها سوى متفرجين كما كانوا طوال العقود الماضية.

الاستثمار في الجماعات الدينية واستدعاء الأمويين من قبورهم ليس سياسة، بل السياسة الحقيقية هي دعم القوى الوطنية لتبني أوطانها وفق مفهوم الانتماء الوطني العروبي، والبداية دائماً وأبداً من عدن، لا من استدعاء الإرث المأزوم، فكل شيء يبدأ بما يرسّخ الهوية ويعزز وحدة الأرض والشعب.
نقلا عن "العرب اللندنية"




شاهد أيضًا

عاجل .. بوتين: التسوية في أوكرانيا يجب أن تكون طويلة الأمد ...

السبت/16/أغسطس/2025 - 02:01 ص

عاجل .. بوتين: التسوية في أوكرانيا يجب أن تكون طويلة الأمد


عاجل ..بوتين: روسيا وأميركا بلدان جاران ونعتز بالعلاقات الثن ...

السبت/16/أغسطس/2025 - 01:58 ص

عاجل ..بوتين: روسيا وأميركا بلدان جاران ونعتز بالعلاقات الثنائية


عاجل ..بوتين: المحادثات مع ترمب تمت في أجواء من الاحترام الم ...

السبت/16/أغسطس/2025 - 01:57 ص

عاجل ..بوتين: المحادثات مع ترمب تمت في أجواء من الاحترام المتبادل


حضرموت على خط النار.. تحالفات مشبوهة بين الحوثي والقاعدة تهد ...

الجمعة/15/أغسطس/2025 - 09:15 م

لسنوات، كانت حضرموت – وخاصة ساحلها – تُضرب بها الأمثال كنموذج للاستقرار وسط صخب الحرب اليمنية، بعدما تخلصت من قبضة أحد أخطر التنظيمات الإرهابية في الع