في قلب الصراع اليمني، وبينما تتراشق القوى السياسية في الشمال بالاتهامات وتصب جام دعاياتها على الجنوب والمجلس الانتقالي الجنوبي، ظلّت هناك حقيقة صادمة تتوارى خلف جدار من الشعارات الثورية والدينية الزائفة.. الحقيقة التي تفضح ازدواجية تلك القوى، وتكشف وجهاً آخر لم يظهر للرأي العام إلا عبر شذرات من الوثائق والتسريبات والوقائع التاريخية.
فمنذ أكثر من قرن، لم تكن علاقة قوى الشمال بالكيان الصهيوني مجرد تواصل عابر أو لقاء عارض، بل كانت خيوطاً نسجت في السر والعلن، امتدت من قصور الأئمة إلى مكاتب الإخوان، ومن ممرات تهريب الحوثيين إلى قاعات المؤتمر الشعبي العام، علاقات تراوحت بين بيع المخطوطات النادرة، وترحيل آلاف اليهود، والتنسيق الاستخباراتي والسياسي وحتى العسكري مع تل أبيب.
اليوم، حين نضع هذه الحقائق جنباً إلى جنب، يظهر بوضوح أن العداء المزعوم لإسرائيل لم يكن سوى لافتة للاستهلاك الجماهيري، فيما كانت المصالح والصفقات تُدار في الكواليس ببرود كامل، هذا التحقيق الاستقصائي يفتح الملفات المغلقة، ويضع أمام القارئ حقائق دامغة عن ارتباط الحوثيين والإخوان والمؤتمر بالكيان الصهيوني، تاركاً الاتهامات الموجهة للجنوب مجرد ضباب إعلامي لتغطية تاريخ طويل من التنسيق والتواطؤ.
شعارات جوفاء وواقع مغاير
لم تعد الشائعات التي يروّجها قادة وأحزاب الشمال اليمني حول الجنوب والمجلس الانتقالي الجنوبي فيما يخص العلاقة بإسرائيل سوى محاولات للهروب من الحقائق، فالوثائق التاريخية والأحداث المعاصرة تكشف أن تلك القوى نفسها هي صاحبة العلاقات الأعمق مع الكيان الصهيوني، سواء عبر صفقات سرية أو لقاءات مباشرة أو ترتيبات استخباراتية ممتدة من عهد الإمامة وحتى اليوم.
الحوثيون.. الاتجار بالمخطوطات واليهود
رغم الشعارات العدائية التي يرفعها الحوثيون ضد إسرائيل، إلا أن الواقع يكشف عن مسارات مصالح خفية جمعت الطرفين.. ففي عام 2015 ظهر نتنياهو وهو يستعرض مخطوطة توراة نادرة وصلت من اليمن خلال استقباله الحاخام اليمني سليمان دهاري، الذي ارتبط اسمه بصلات مع الحوثيين.
الصفقة رافقتها عملية تهجير لسبعة عشر يهودياً يمنياً إلى إسرائيل، تخللها إخراج مخطوطة توراتية نادرة.. مصادر عديدة أكدت أن الحوثيين حصلوا من هذه الصفقة على ما يقارب 100 مليون دولار، إضافة إلى تمرير شحنات سلاح عبر شبكات مرتبطة بالجماعة.
جذور العلاقة تعود لعهد الإمامة
هذه الوقائع تعيد إلى الأذهان أحداث عهد الإمام يحيى حميد الدين، حيث جرى ترحيل عشرات الآلاف من اليهود اليمنيين إلى فلسطين المحتلة، عملية "بساط الريح" (1949 – 1950) كانت أبرزها، إذ نُقل نحو خمسين ألف يهودي ضمن اتفاق إقليمي ودولي. ما يكشف أن ملف اليهود ظل ورقة سياسية رابحة بيد هذه السلالة منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم.
الإصلاح.. دعوات علنية للتقارب
أما حزب الإصلاح، الذراع السياسية للإخوان المسلمين في اليمن، فقد شهد تحولات لافتة مؤخراً، فبينما كان يقدّم نفسه كحزب إسلامي معادٍ لإسرائيل، ظهرت قياداته في برامج إسرائيلية تتحدث عن ضرورة التنسيق مع تل أبيب سياسياً وعسكرياً بذريعة مواجهة الحوثيين وإيران.
قناة 24 الإسرائيلية بثّت سلسلة حلقات ناقشت اليمن والبحر الأحمر، وتخللتها تصريحات إصلاحية صريحة عن أهمية الشراكة مع إسرائيل، وهو ما يعكس تناقضاً صارخاً بين الخطاب العلني والتوجهات الفعلية.
المؤتمر.. لقاءات مباشرة مع تل أبيب
حزب المؤتمر الشعبي العام هو الآخر لم يكن بعيداً عن هذه العلاقات. فقد وثقت صور زيارة وزير الخارجية الأسبق عبدالكريم الإرياني إلى تل أبيب عام 1994 ولقاءه شيمون بيريز طالباً دعمه في حرب الشمال ضد الجنوب.
كما كشفت تقارير عن لقاءات سرية لعلي عبدالله صالح مع مسؤولين إسرائيليين، عُرض خلالها تسهيلات لوجود الأساطيل الإسرائيلية على سواحل البحر الأحمر مقابل مساندته.
جذور استراتيجية بعد حرب أكتوبر
العداء الإسرائيلي لدولة الجنوب تعمّق منذ أكتوبر 1973 حين أغلقت البحرية الجنوبية بالتنسيق مع مصر مضيق باب المندب ومنعت مرور النفط الإيراني إلى إسرائيل لـ28 يوماً.. هذه الضربة جعلت تل أبيب تبحث عن حلفاء شماليين لضمان مصالحها البحرية. ومنذ ذلك الحين تحولت قوى الشمال إلى القناة المفضلة لتأمين هذا النفوذ.
اتهامات للتضليل
كل هذه الشواهد تثبت أن العلاقة مع إسرائيل ليست وليدة اللحظة، بل هي سياسة متجذرة لدى قوى الشمال: الحوثيون تاجروا بالمخطوطات واليهود، الإصلاح فتح باب التنسيق السياسي والعسكري، والمؤتمر أجرى اتصالات مباشرة، أما اتهاماتهم للجنوب والمجلس الانتقالي فليست سوى أدوات تضليل للتغطية على تاريخ طويل من الصفقات والتنسيق مع الكيان الصهيوني.